الآن، وبعد مرور أكثر من خمسة أشهر على بداية ظهور تحرك حقيقي في الشارع السوري باتجاه التغيير السياسي، وبعد المرور بالكثير من المراحل سواءً في الداخل أو في دول المحيط والتي وضعت الكثير من أفكار الموروث السياسي أمام مرآة الحقيقة، يبدو من الطبيعي جداً أن يظهر الرئيس السوري هو أو أحد محلليه الكُثر وهم يتحدثون عن التفاؤل والحسم والإصلاح والشفافية والثقة والمستقبل واللاأزمة وما تبقى من كلمات متقاطعة متشابكة تصلح لأي خطاب حكومي سوري حتى ولو رتبتها بشكل عشوائي وكيفما اتفق، حيث أنهم وبشكلٍ فعلي يعلمون تمام العلم أن الطرف الآخر “الشارع أو المعارضة” لم تشكل حتى الآن أي عنصر قلق للداخل وهي تتخبط في تشكيل اللجان وطرح الأفكار والظهور المتلفز والصحفي والنبرة التمردية الباردة الواثقة والتي وإن قدَّمت فلا تقدم إلا القليل من الشهرة الوقتية لصاحبها الذي من الممكن ألا يتعدى كونه متسول شهرة أو أصدقاء، كما يحدث اليوم في أوساط من يعملون بمهنة “مثقف سوري” حيث بدأ البعض بتسويق الذات كأحد أهم رموز الثورة وأبطالها في الداخل، مرةً عن طريق إقناع الجميع بأنه ملاحق من عشرات الأجهزة الأمنية ومرةً عن طريق صنع أقنعة مسرحية توزع في حفلات الكوكتيل الثورجية ومرةً أخرى عن طريق إضافة أسماء سلعوية إلى التعداد الرقمي الفيسبوكي ليظهر صاحب الصفحة وكأنه قائد الكتروني لواقعٍ يرفض حتى المرور بجانبهم ويكتفي برفع كلمة “حرية” شعاراً لامعاً ما من أحد استطاع فك رموز سحره حتى الآن.
فمن الممكن لأي أحد وبأي سوية فكرية أن يلاحظ أن عملية التسويف والتهليل وطرح الكلام الفارغ موجودةٌ لدى الطرفين المتنازعين وكأنهما رضعا البعث من قارورةٍ واحدة ولكن بِحِلمَتين، فحينما ينعقدُ مؤتمرٌ حكوميٌ يمينيٌ في دمشق ليخرج بتشكيلِ لجنةٍ ما ستبدأً عملها في وقتٍ ما لمناقشةِ مشكلةٍ ما في طريقٍ إلى إصلاحٍ ما، يقوم الطرف الآخرُ في الخارجِ غالباً وفي الداخلِ أحياناً بتشكيلِ لجنةٍ ما لطرح قضيةٍ ما لحلّ أزمةٍ داخليةٍ ما…. الخ، وبين هذا وذاك، يتخبطُ آخر الواقفين “الكائن السوري” بين إرجوحة اليمين والخلف أو اليسار والأمام ليجد نفسهُ عاجزاً عن الفهم وعن البقاء في قفص المجهول كلعبة نرد بين بعض تجار السياسة والثقافة والمال، فتراهُ منساقاً إلى الهتافِ الصوفي في أحد الأزقة أو الساحات وكأنه يطالب حتى بإسقاط كل من آمن به من آلهة خذلوه دائماً مما أدى إلى وجوده ككائنٍ ثنائي الجنس وضحيةٌ من ضحايا الاغتصاب النفسي والفكري والذي بات أحد العلوم الذي تقوم سوريا بتسويقه وبالمجان مثل أي علم آخر سوقته كالرشوة المضمونة والفساد الممنهج والتصفيق المرتبط باللاوعي والتشبيح المافياوي والإرهاب اللامباشر….. الخ.
قد يقول البعض أن فئة اليسار تتعرّضُ لضغوطٍ كثيرة في الداخل وفي الخارج وهذا صحيح، لا بل أيضاً قد تصل إلى مرحلة الاغتيال المباشر وتصفية جميع أفراد العائلة، وقد يقول البعض الآخر أن ما يحدث الآن في سوريا كان ليُعدُّ ضرباً من الوهم السياسي لو أنتَ ذكرتَه قبل عامِ من الآن وهذا أيضاً يقارب الصحة، لكن ما هو أكيد أن لا أحد على الإطلاق بقادر على إنكار أن ثقافةَ أربعون عاماً من صناعة البرادات الثقيلة والعلكة النووية ومحارم إزالة الهموم كانت قد حملت في طياتها شراباً سحرياً تجرَّعهُ كلُّ من مر من هنا ليقبع حبيس الخوف من الذات قبل الخوف من الآخر الشرير، لتسقط أخيراً أقنعة الجميع ممن كانوا محط أنظار المشتغلين بمهنة الثقافة واللذين عانوا كثيراً قبل أن يتخلصوا من عذابهم بنقض نظرية المؤامرة الكونية والترتيب الطبقي للهرم السوري والأحقية الطائفية، فكانوا إذا فعلوا شيئاً لم يفعلوا أكثر مما قامت به هيئات و مؤسسات “منحبك، منعشقك، منشتهيك” ألا وهو تشكيل لجان وأحلاف وإئتلافات وهيئات لم ترق لمرحلة فكرية استطاعت بها أن تضيف شيئاً جديداً لا يعرفه الجميع عن وضعٍ معيشي أسودٍ قاتم واستمرار الإيمان بإلهٍ محبوب لدى السوريين كصاحب الفضل دائماً حتى وهو مخصيٌ ذابلٌ كأثداء النساء في هذا الشهر الفضيل.
ومن هنا، بات من الجلي حتى لقِرَدةِ المختبرات أننا نموت كل يومٍ مرتين على الأقل وأننا لا نحب أن نموت كثيراً كوننا نخطط لمستقبلٍ أفضل مليءٍ بالورود البيضاء والسلام العالمي والتخلص من الأوبئة وخصوصاً سرطان الثدي والبروستات، لذلك وبناءً عليه فنحن بحاجةٍ حقيقيةٍ لحكومة ظل أو تظل أو لمجلسٍ انتقالي يهدينا الأمل أولاً بوجود قوةٍ حقيقية قادرة على إشباع جوعنا الدائم لحريةٍ زرقاء ويهدينا الانقلاب الفكري ثانياً قبل أي انقلاب سياسي قد لا يتعدى تبادل مجموعة من الأوراق والمكاتب والمصالح لشعبٍ أعلن الحرية إسلوباً دائماً للحياة.
————————
بقلم : ط خ
22/8/2011