يوسف أبو خضور
-“دورية ”
قال أبو سعيد فجأة مقاطعا حديث أبو عمر الذي كان مستغرقاً في حديثه عن برنامج الإتجاه المعاكس و متحمساً لنقاش البارحة، و مقتنعاً بوجهة نظر أحدهم بقرب سقوط النظام، ظاناً أنه بحديثه سيخفف عن أبو سعيد في الذكرى السنوية لإستشهاد ابنه البكر سعيد. كان ذلك في ورشة ابو سعيد لتصليح السيارات…..
أبو سعيد الذي كان يكرر دائما على مسمع صديقه ابو عمر : كلهم كلاب يا أبو عمر، كلهم تجار و ما حدا حاسس فينا
أبو سعيد مشهورٌ في منطقته بحرفيته العالية و معلميته، و بأنه قادر على تمييز عطل السيارة من سماع صوتها فقط، كان لقبه “أبو سعيد السمّيع”
وقف ابو سعيد على قدميه يترقب صوت السيارة “الدورية “الذي بدأ بالانكشاف أكثر فأكثر، تاركاً أبو عمر في جفاف حلقه .
توقفت سيارة دفع رباعي صوت محركها يشبه صوت التجشؤ، تجر خلفها سيارة مازدا 323 موديل 2004 يبدو أنها متعطلة، تحمل داخلها جندي يبدو سعيداً…..
-مين أبو سعيد..؟؟؟ قال أحد الجنود الخمسة المسلحين الذين يبدو لمن يراهم أنهم على وشك خوض حرب من لباس الجاهزية الذي يرتدونه و حركة عيونهم التي لا تستقر ابداً..
-قال ابو سعيد :نعم
-شوفلنا مشكلة هالسيارة، عم يطلع منها صوت عالي بس نشغلها،
-سيارة مين هي؟؟ سأل أبو سعيد الذي وقف مرتبكا..
-سيارة أبو عماد مقدم بالأمن العسكري. قال الجندي الذي كان يضع هاتفه على أذنه بانتظار الإجابة من الطرف الآخر
تكلم مع “معلمه” بضع كلمات و مد الهاتف باتجاه ابو سعيد وقال :احكي ….
منذ اللحظة التي وضع فيها أبو سعيد الهاتف على أذنه و سمع الصوت امتقع وجهه و انطفأت ملامحه فجأة، و قال بسرعة و بخنقة في صوته :ماشي ماشي… و أعاد الهاتف للجندي الذي يتصرف بحذر كانه في مهمة رسمية عالية السرية .
أبو عمر الذي ما زال مكانه في العتمة الخفيفة داخل الورشة سمع الجندي يختم حديثه بقوله:والله ما بعرف سيدي، ثم قال ماشي ماشي…….. اغلق الهاتف و قال :عم يقول المعلم بدك تصلحها غصب عنك …
الجندي الذي بدا في وضع محير فهو لا يعرف كيف يتصرف مع أبو سعيد، هل يعتبره انسانا عاديا و يمارس سلطته المعتادة عليه، أم هو من أصحاب المعلم ..؟؟ استند الى السيارة التي تحوي ثلاثة جنود يبدو أن كل واحدا منهم في شأن، و أخذ يراقب أبو سعيد يدخل بخطوات ثقيلة ليحدث صديقه القابع في العتمة، و الذي يبدو أنه بحاجة للمساعدة ليقوم عن كرسيه، محاولأً أن يسمع ما يقول أبو سعيد لصاحبه. لكنه لم يستطع ان يسمع بسبب صوت سيارته الذي يشبه التجشؤ.
-ااااخ يا ابو عمر . قال أبو سعيد و جلس متهالكا على كرسيه …
-خير أبو سعيد..؟؟
-نفس الصوت يا ابو عمر، بحياتي ما رح انساه و بطلعه من بين مليون صوت ….
-صوت شو ابو سعيد..؟؟
-هادا الضابط نفسه اللي اجا مع الدورية يوم اعتقلوا سعيد الله يرحمه..
-اي و شو بدك تعمل أبو سعيد، الجماعة ناويين على شر شكلهم ….
-صمت اأبو سعيد و غاب مع نفسه، فكر فورا في زوجته التي أصبح حزنها على سعيد مرعباً، ماذا سأقول لها إن أصلحت سيارة الضابط الذي ربما قتل سعيد تعذيباً ..؟؟؟ و هل أستطيع أن أخفي عنها أمراً كهذا..؟؟كيف سأحمل هذا الثقل وحدي دون أن أبوح لها ……؟؟؟
تذكر تلك القصة الطازجة التي يتداولها أهل المدينة عن ذلك الجندي المتطوع الذي أخبر زوجته بأنه قتل أحد أبناء القرية التي يخدم فيها تحت اجبار السلاح، قال لها: قتلته والبندقية على رأسي . مزيحاً عن كاهله ثقل تأنيب الضمير عبر مشاركة زوجته بسره.
وجد هذا الجندي بعد فترة مقتولاً من أهالي الشاب، دون ،ن يعرف أحدا كيف افلتت القصة من لسان الزوجة، و لمن روتها، حتى وصلت إلى أهالي الضحية الذين ثأروا لابنهم فوراً.
-قال ابو سعيد في نفسه: إن أسعيد مختلفة ولن تخبر أحداً، و لامجال أيضا لمقارنة قتل انسان بتصليح سيارة، و لكن: ألم يُقتل جاري صاحب السوبر ماركت لأنه كان يبيع لرجال الأمن وقيل بأنه يتعامل معهم ..؟؟
أي جحيم هذا………!!!؟؟
هل سيعتبرونني أتعامل مع رجال الأمن، و ينسوا أنني أبو سعيد الذي قتل تحت التعذيب ..؟؟ سعيد الذي كسر قلبي،
سعيد الذي لن أنسى شكله عندما سلموني اياه في المشفى كأنه غرض ما …
-تعا استلم ابنك ….
-لا تنسى توقع على أوراق الاستلام و التنازل…..
ليتني لم أشاهدك ميتا يا سعيد، ليتني دفنتك قبل ان انظر في وجهك، كنت على الأقل احتفظت بصورتك حياً بدل هذه الصورة التي تقفز في وجهي ليل نهار ولا تغادرني حتى في أحلامي، انقذني يا ولدي، أصبحت حاجتي إليك لا تحتمل بعد موتك، كل شئ يشتاق لك، ذلك المكان الذي يحتفظ لليوم بأشيائك، زاويتك التي زينتها بصور أحب الأشياء إليك، سيارة أحلامك و مطربتك المفضلة التي كنت اسخر من تعلقك بها، ادواتك و جنونك عندما يلمسها احدهم، ما زالت حيث تحتفظ بها، تتنظرك، من قال أن سعيد مات لوحده أ لقد أخذ أرواحنا أنا وأمه معه .
– سعيد ماذا افعل يا بني ……؟؟
أشار أبو عمر لأبو سعيد براسه إلى جاره الذي هرع بفضول و وقف أمام الجنود بابتسامة بلاهة و وجه أصفر، جاره الذي كان يسمي نفسه معتدلا و يردد دوما: مو هيك الثورات يا أخي مو هيك
-لماذا لم استمع لنصيحة أبو عمر وأغلق المحل باكرا..؟؟ هل هذا هو الرزق الذي اخبرته انني اشعر به قادما..؟؟كنت اختصرت على نفسي هذا المأزق و شماتة هذا الأبله الانتهازي….
تذكر أبو سعيد كلام ابنه سعيد عن جارهم و هو يقول أمامه بسخرية : البلد الوحيد بالعالم اللي الموالي بخاف من النظام أكثر من خوف المعارض…..
-نعم …….ابني سعيد كان سيرفض تصليح السيارة حتى لو هددوه بالقتل، لن انسى ليلة اعتقاله، تلك الليلة المشؤؤمة ، لم أر في عيون سعيد أي أثر للخوف، على العكس لقد كان شجاعاً و عنيداً، و على وجهه ابتسامة سخرية خالدة .
من أين أتى سعيد بكل هذه الشجاعة ..؟؟ ما الذي تفجر في قلوب هؤلاء الشباب و لم نكن نشعر به نحن..؟؟ ربما لأن خوفنا اعتق و أكبر عمراً و أشدّ عوداً . هل يعلم هذا الضابط أني أب لذلك الشاب الذي رد عليه الشتيمة و ربما قتل بسبب رده هذا ..؟؟؟
هل سيقتلني إذا ما رفضت تصليح السيارة ..؟؟
– فكرأبو سعيد في زوجته وأولاده : ولكن كيف سأعيش مع هذا الذنب إذا ما رضخت له..؟؟ و ما يدريني ربما أموت في طريق عودتي للمنزل، أموت بعاري ….!!؟؟ هؤلاء الجنود إنهم يوزعون الموت بالمجان . هل يكون مصيري مثل ذلك الجندي الذي قبل أن يطلق النار ثم وجد مقتولا و خسر حياته و شرفه معا..؟؟
نهض أبو سعيد بصلابة و قال: شرّف أبو عمر
مشى أبو عمر في ظله و سمعه يقول للجندي و هو يغلق باب المحل: سكّرنا عمي……………..