سمية حمضمض
——————–
في ذكراها الثلاثين وانا اكبرها بأربع سنوات اريد ان احكي عن حماة……رغم اني لم اعش المجزرة…. لكني عايشت حماة…أنا لست شاهد عيان على القتل والذبح والاغتصاب ولكني شاهدة على كل شئ سواها…. ومن قال ان المجازر تنتهي عند القتل والذبح والاغتصاب
انا شهدت حماة في المسبحة التي كررتُ على حباتها “يا لطيف” مئة مئة مرة وبللتها امي ببكائها الف الف مرة
في جرح امي الغائر داخلها لما كانت تحدثني عن جدي وحبه وحنانه ودلاله….وموته تحت التعذيب
في دموع جدتي حين كانت تذكر ابنها الذي قتل امام عينيها وتنعته بلفظ “هداك” كي لا تحمّل لسانها ما لا يحتمله قلبها….حتى صار اسمه خالي هداك
في حلاوة الرز التي لم تصنعها امي الا بعد وفاة جدتي لانها كانت أعدتها لخالي “هداك” يوم ان رحل….فقد كانت اكلته المفضلة
في حسرة جدتي يوم عرفت ان زوجة ابنها الثاني-العروس التي عاشت معه اشهراً وانتظرته أضعاف اضعافها- قد طلبت الطلاق ليأسها من ان يعود ثانية حياً….
في العقد المصنوع من حبات الزيتون والقلم المصنوع من عظم الدجاج والقلادة المحفورة من الخشب التي حفظتها امي في علبة مجوهراتها لما ارسلها خالي من سجنه – شارة وجوده على قيد الحياة – بعد اشهر قلائل من وفاة امه وطلاق زوجته!!
في التناقض الذي لم افهمه حين أخبرتنا جدتي مرة بالمثل الشعبي الذي يقول “العيشة تحت الجسر ولا العيشة عند الصهر” وهي التي تعيش معنا في بيت صهرها!
في التعجب الذي دار في خلدي وانا اسمع جارة تغبط جدتي على ان ابنها يملك ارضاً تسمى قبراً!!! بينما غاب أولادها الاربعة دون ان تعلم لهم اثراً ….
في قبر امي الذي ما كان ينبغي له ان يكون الا حيث ولدت واحبت وتزوجت وانجبت اربعة من أطفالها
في حلمها لخمسة وعشرين عاماً باليوم الذي تلتقي فيه أخاها وجها لوجه دون ان يكون تراب القبر حائلاً بينهما
في عجائب كلمة من ثلاثة احرف “راح” والتي لا تكاد تجلس في مجلس الا وتسمع ما تحتويه من قصص ومآسي وعذابات
في قصة اولاد العمة الذين “راحوا” لكنها ما زالت تنتظرهم ثلاثين عاماً
في الاحساس العجيب الذي انتابني لما ضممت عماً وعمة وخالاً لاول مرة وعمري اثنان وثلاثون عاماً
في شعور ان تعيش لاجئاً مع فرق واحد: ان لا يفهم سبب او كنه لجوئك احد
في ان تحتاج لتشرح في كل وقت وحين كيف انك سوري ولا تعرف وطنك الذي يبعد عنك ساعتين بالسيارة والذي يزوره كل افراد صفك لقضاء إجازاتهم الصيفية ليعودوا فيحدثوك عن جماله وروعته وخضرته وبحره ومصايفه ظناً منهم انهم يجاملونك ولا يعلمون اي جرح غائر هم ينكؤون
في الصدمة التي ترتسم على وجه مستمعك عندما تحدثه فيفتح فاه فاغراً عجباً من فظاعة القصة او هول الكذبة
في العيد الذي يأتى دون ان يزورك عم او خال او قريب رغم انك تملك منهم الكثير
في الجواز المستعار والهوية المزورة والانتماء المزور
في ان تحرم من الجامعة والمنحة و الوظيفة والمكافأة لان لك وطناً اخر لم تطاه قدماك
حماة كانت هناك في كل شئ وأي شئ …. حماة مأساة جيل باكمله وشعب باكمله وليست قصة من قتل و”راح” فحسب…..حماة جرح غائر آن له ان يندمل لكن ندبه سيظل هناك للابد