كانت حياة تجلس في حضن أمها التي كانت تقوم بتمشيط شعرها وضفره بعد أن استمتعت بحمام يوم الجمعة المعتاد. كانت لاتزال تأمل ,على الرغم مما تراه على وجوه أهلها من شحوب وقلق وخوف , بأن تحصل هي وإخوتها على نزهة يوم الجمعة المعتادة في احدى ضواحي ريف دمشق, حيث اعتادت العائلة على فعل ذلك كل اسبوع, إلا أن تلك العادة انقطعت منذ شهر ونصف تقريباً. منذ أن تسمر الأب والأم أمام شاشة التلفاز ليمارسا لعبة سباق التغيير بين المحطات الاخبارية, والتي كانت حياة ممنوعة من مشاهدتها لانها مازالت طفلة كما قال والدها.
ذهب والدها للصلاة ولكنه رفض هذه المرة أخذها معه كما كان يفعل في بعض أيام الجمعة. كانت تتمتع بالتواجد في ذلك المكان الكبير والمليء بالكبار وتشعر بالتميز كونها تجلس بينهم وتسمع ما يسمعون, كونها ربما من القلة القليلة التي تبقى مستيقظة خلال تكلم ذلك الشخص صاحب اللحية الكبيرة والرأس المنتفخ بطريقة كانت تحثها على الضحك. كان من أكثر لحظات الكوميديا عندها عندما تبدأ الصلاة وينتهي الشخص الخفي الذي يقوم بالتكلم على المايكروفون من قراءة سورة الفاتحة ,التي حفظتها عن ظهر قلب ويقول المصلون جميعاً كلمة(آمين) ويطيلونها فتشعر بأنها على وشك أن تنفجر ضاحكة لسبب لم تعرفه ولكن لربما كان ذلك بسبب تردد صدى المصلين في المسجد. أما بعد انتهاء الصلاة فقد كانت تنتظر أباها ريثما يقوم بإحضار الأحذية, و تشاهد الاطفال الباقيين وهم يقبلون يد ذلك الشخص ذو اللحية, لطالما استغربت ذلك وعندما سألت أباها يوماً عن ذلك قال لها:
( ليس عليك أن تقبلي يد أحد في هذه الحياة, وإن قبلتي يد أحد يوماً ما فاحرصي على أن يستحق ذلك حتى لو كان أنا). على أية حال يبدو أنها ستفتقد كل تلك التجربة الفريدة هذه الجمعة أيضاً.
في هذه الأثناء وفي منطقة أخرى من المدينة كان مجموعة من الرجال يجلسون حول طاولة مربعة صغيرة يتبادلون أطراف الحديث عن الوضع السياسي في البلد خلال لعبهم بالورق, ويبدو لمن يراهم بأن حديثهم لم يكن سوا ترديداً لصدى الأبواق الصدئة التي امتلأت بها شاشات الإعلام الرسمي هذه الأيام, ولكن ما يميز جلستهم تلك كانت كأس المتة التي تعيد للأذهان صورة ذلك الموظف المتكاسل والذي يقضي نهار عمله يزاول هوايته الوحيدة: شرب المتة.
يرن جرس الهاتف المعلق على أحد جدران الغرفة ليقطع صفو لعبة الورق, ويقوم أحدهم ليرد:
– حاضر سيدي … أمرك سيدي .. علم سيدي .. مجموعة (مندسين) في منطقة برزة … بسيطة سيدي.
يغلق السماعة, يلتفت لرفاقه ويقول:
مجموعة (مندسين) في منطقة برزة .. يجب أن نذهب بسرعة … ولا تنسوا التعليمات المتعلقة بإطلاق الرصاص !!!
يجيب عليه رفاقه بابتسامة واثقة بالإيجاب وينطلقون في سيارة البيجو ستيشن.
يصلون للمكان ويقفون على مقربة من المصلين الخارجين من الجامع عقب صلاة الجمعة , وتبدأ مجموعة الرجال مباشرة باطلاق النار بالهواء, فلقد كانت الأوامر بتفريق الجموع لكي يتمكنوا من رؤية المندسين بشكل واضح !!
ولكن وبشكل مناف لأي منطق أو عقل بدأ الجمع بالقفز عالياً بالهواء بشكل هستيري وبدأت الرصاصات العفوية والبريئة تدخل رؤوسهم وتسقطهم قتلى.
وبينما كانت البنادق الآلية والقناصات تمطر المكان بالرصاص قال أحدهم:
– أليس علينا التوقف عن إطلاق النار؟؟ ما رأيك يا زعيم؟
– يا غبي !! ألا تفهم؟؟ المعلم قال أطلقوا النار .. ولا أذكر أني سمعته قال توقفوا !!! ما معناه أننا سنتابع إطلاق النار حتى تصلنا أوامر التوقف … تابعوا الاطلاق.
بعد حوالي النصف ساعة تمكن والد حياة من الوصول إلى البيت حياً وجلس مذهولاً لهول ما رأى, صامتاً أمام عشرات الأسئلة من عائلته عما حدث وعن مصدر صوت الرصاص الذي سمعوه.
ومرت الدقائق كأنها ساعات, كانت العائلة تجلس هناك في غرفة الجلوس التي سيطر عليها جو من الإكتئاب زاده انقطاع التيار الكهربائي وشح السماء بنور الشمس ذلك اليوم وكأنها كانت غاضبة فتلبدت غيومها.
كانت حياة خائفة مذعورة من صوت الرصاص ومن هيئة والدها الذي لم تره كما رأته اليوم, إلا مرة واحدة عندما توفي جدها قبل سنة.
طلب الوالد من حياة وإخوتها مغادرة الغرفة إلى غرفهم عله يجد شيئاً من الخصوصية ليكلم الأم, وبعد خروجهم بدقائق قليلة, بدأ يصف لها هول ما رأى وسمع, وكانت الأم تبكي وهو يبكي.
وبعد نصف ساعة من الحزن العميق بدأ بتجفيف دموعهما لكي لا يراهما أولادهما في تلك الحالة, ولكن ما لبثا أن سمعا صوت تحطم زجاج في الغرفة المجاورة, تبعه صوت هدوء لثوانٍ قليلة ما لبث أن تحول لثورة من الصراخ المرعب آتٍ من غرفة حياة. هرعا إلى الغرفة ليجدا حياة ممدة على الأرض فوق بقعة من الدماء التي تسيل من رأسها وأخوتهها يبكون حولها. انهارت الأم من هول المنظر وسارع الأب لحمل حياة في محاولة يائسة لانقاذها, نزل طوابق البناء الثلاثة بسرعة ليركض في الشارع إلى أقرب مستشفى حيث لم يستطع أن يجد من يقله لخلو الشوارع, وعندما وصل أعلموه بأن الإصابة كانت قاتلة وأن .. حياة فارقت الحياة ..
حياة كانت تلعب مع إخوتها لعبة القفز بالحبل … حياة قفزت وشأنها شأن أي طفل يحمل في عقله البريء طموح (عال) وأحلام (كبيرة), كانت قفزتها عالية, عالية بما يكفي لتعترض طريق رصاصة رجل كان (واطي) عذراً كان (موطي) مستوى إطلاق النار فأصابتها.
صدر في اليوم التالي تصريح لمسؤول (واطي) المستوى على قناة (واطية) التردد يقول:
إن هذه القصة تعلمنا شييئين مهمين للغاية:
الأول: يمنع الأطفال من ممارسة لعبة القفز بالحبل من الآن وصاعداً
الثاني: يمنع أي مواطن من الأساس بامتلاك طموح (عالي) لانه بذلك سيكون مهدداً لمسار الرصاص (الواطي) المطلق بالهواء.
وننتظر مشروع قرار من مجلس الشعب السوري لينظم لعبة القفز بالحبل … ودمتم ودام الوطن
انتهت القصة .. وقد نسجت تفاصيلها معتمداً على قصة استشهاد الطفلة إسراء محمد يونس ذات السبع سنوات في منطقة برزة في دمشق .. لم يكن لي الشرف يوما لأعرف الطفلة أو أحد من أهلها … ولكني فقط سمعت بخبر استشهادها وهالني ذلك … وخرجت بهذه القصة التي تحمل من إسراء فقط عمرها واسم حيها وواقع ما يحصل في بلدنا سورية.
نهاية أرجو ألا أكون قد أسأت لها عندما غيرت الاسم .. ولكنني كنت رافضاً لقتل اسمها مرة ثانية .. إسراء هي الأسماء كلها وهي الحياة كلها .. حياة أو إسراء أو أي طفل في وطننا الغالي استشهد ليقول لنا .. ما زال في هذه الحياة شيء لنستشهد ونحيا لأجله .. الحرية والكرامة
اسراء ..
أنت الحياة كلها
وقاتلوكِ في هذه الحياة دخلاء
سيخلد التاريخ ذكراكِ لأنها
قصة حرية وكرامة وإباء
وسنُسمِع شعوب العالم كلها
حكاية سفيرتنا إلى السماء
حكاية قلب صغير خافوا صوته
حاربوه .. قنصوه كالجبناء
والله لا حق يضيع عنده
فنتركهم لربٍ مانسي الضعفاء
وإن كنت على يقين أنه
أي إله مهما كان اسمه
لا يؤمن به, من مثل هؤلاء
ملاحظات:
النص من تأليفي و يسمح نقله ونشره لكن يتوجب نسبه إلى صاحبه
يُحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية
يُحظر القيام بأي تعديل أو تحوير أو تغيير
كتبت القصة بتاريخ 25/4/2011
الصورة المستخدمة للفنان Donald Zolan
وبالنهاية .. بهديها لروح كل شهيد سقط وروى بدمائه الطاهرة تراب الوطن .. لتكبر شجرة الحرية ويعيش بظلها الجميع
بقلم: أبو نجم
تعليق واحد
سلمت يداك أخي…….والله إن العقل ليقف عند سماع هكذا قصص…..هيا إنشالله طير من طيور الجنة مع الأطفال الشهداء جميعا
والحرية قادمة قادمة إنشالله ,مابقي في هذا الجسد روح