بقلم Adonis Syriani
——————————
تبدو النظرية النسبية في التحليل السياسي والتي وضعها الراحل نهاد قلعي الأكثر نجاعةً في فهم الحالة السورية المستعصية، ذلك أنه ومع الغياب شبه التام لأطراف محايدة (الصحافة) قادرة على نقل الوقائع بشكل طبيعي، فإن أفضل طريقة لفهم هذا الاستعصاء السوري تكمن في معرفة مكان الاستعصاء وكما كنا نتعلم في دروس التربية العسكرية فإن استعصاء أي سلاح يأتي إما من السلاح نفسه أو من الذخيرة أو من الرامي وبالتالي الخطوة الأولى باتجاه الحل هي معرفة سبب الاستعصاء.
تغلب على المشهد السوري حالياً صورتان متناقضتان كلاهما غير صحيح: صورة مُغرقة بالكذب تحاول أن تُظهر أن سوريا بخير وكل شي تمام وعال العال وصورة أخرى تحاول أن تعطي انطباعاً وكأن رجال الجيش الحر يحتسون الشاي على عتبات القصر الجمهوري!
الاستعصاء ومنذ بداية الثورة كان ومايزال في المنطقة الفاصلة بين هاتين الصورتين أي عند الأغلبية الصامتة التي لاتحرك ساكناً على الأرض، وكما الأقلية الثورية والأقلية الداعمة للنظام فإن هذه الأغلبية الصامتة مؤلفة من شرائح اجتماعية متنوعة اقتصادياً وعرقياً ودينياً وهي الوحيدة القادرة على ترجيح كفة الميزان قبل أن يتم بيعنا وشرائنا على موائد المحافل الدولية، سقط النظام أم لم يسقط.
هذه الأغلبية وإن كانت لا تقتنع الصورة التي يقدمها النظام فإن الوقائع على الأرض بالإضافة إلى بعض التجاوزات الثورية وأخطاء بعض من يحسبون أنفسهم على الثوار لا تساعد الأغلبية بتصديق الصورة الأخرى مما يجعلها وبشكل واعي وأحياناً غير واعي أميل إلى تصديق رواية النظام، لأن تصديق رواية الثورة ولا أعني برواية الثورة ما يصدر إعلامياً عنها وإنما كل ما تنادي به الثورة من حرية وعدالة ومساواة وديمقراطية ودولة مدنية وقضاء على الفساد، إن تصديق هذه العناوين يُحتم على هذه الأغلبية الصامتة أن تتحرك بشكل تلقائي وطبيعي لدعم الثورة والوقوف ضد النظام – هذا إذا كنا مانزال نعتبر انفسنا من فصيلة الانسان العاقل الخاضع للمنطق- في حين أن تصديق رواية النظام فإنه يؤدي خدمتين اساسيتين لأي شخص يريد أن يظل في المنطقة الرمادية لهذا الصراع :
الخدمة الأولى هي أن تصديق رواية النظام يُريح ضمير أي شخص يريد أن يبتعد عن هذه المعركة ذلك أنه وحسب رواية النظام فإن المشكلة تأتي من قوى خارجية تلعب بعقول البعض في الداخل وبالتالي فإن هذا التحليل يُمكننا من تفَهُم موت الأطفال والنساء في جانب الطرف “المُغرر به” واجتياح المُدن يصبح أمراً اعتيادياً مقبولاً لا بل مطلوباً في بعض الأحيان. علينا الاعتراف بأن النظام قد نجح في تحييد السلاح الأهم في هذه المعركة وهو الشعب ولكي نكون أكثر دقة “تحييد جزء كبير منه”.
الخدمة الثانية والأهم هي أن تصديق رواية النظام تمنَح المُصدق صكاً بإنه لم يكن على خطأ طوال السنوات الماضية عندما كان يعتبر أن النظام شر لابد منه، عندما كان يصدق أن حزب الله حزب مقاوم، عندما صدق أن النظام يحمي الأقليات، عندما صدق أن النظام ممانع، عندما كان يصدق أن هناك مؤامرة دائمة على سوريا، عندما كان يصدق أن رامي مخلوف “أحسن من ولا شي”، عندما كان يصدق أن لبنان نقطة ضعف في الخاصرة السورية، عندما صدق أن بشار قادر على الإصلاح، عندما صدق أن هناك حرس قديم يمنع بشار من الإصلاح وعندما صدق أن النظام يريد فعلاً الإصلاح في حين أن رأس النظام يعلن على الملأ أن شعبه غير مؤهل للديمقراطية، عندما صدق أن النظام يريد بعض الوقت لإتمام الإصلاح ولكن أطفال درعا لم يمنحوه هذا الوقت!
المشكلة تكمن في أننا مجتمع لا يحتمل الخطأ، فالخطأ مرفوض وغير مسموح به على الإطلاق في حين أن الخطأ هو المعلم الأول للإنسان ، مع الأسف ما نزال نعيش تحت تفسير خاطئ لـ”وإذا ابتليتم بالمعاصي فاستتروا” مما جعل منا مجتمعات طهرانية تكذب باستمرار “لتَستُر” ولا أحد يستطيع أن يتعلم من أخطائه ولا من أخطاء غيره لأن كل شيء مستور وأهم شي السترة وهذه العقلية هي التي ساعدت على استمرار نظام فاسد كما أعطت المبرر لكثيرين لكي يصبحوا شركاء بهذا الفساد “مادامت الأمور مستورة”.
من الصعب الاعتراف بالخطأ، وكلما طال هذا الخطأ كلما صَعُبَ التراجع عنه، وبالتالي نستطيع تَفهُم الكثير من آبائنا وأمهاتنا الذين يفضلون تصديق رواية النظام، لأن تصديق الثورة يعني أن الأربعين سنة الماضية من حياتهم كانت بلا معنى، أنَّ كل سنوات الظلم والفساد التي عشناها كانت من أجل لاشيء أن الذل الذي قبلناه لم يكن قضاءً وقدراً وكان بوسعنا أن نغير مجرى الأحداث.
تصديق الثورة يُحتم على كل شخص وكُلٍ بحسب عمره أن يسأل نفسه:
ماذا كنت أفعل صباح الثامن من إذار 1963 .. لماذا لم أفعل شيئاً؟
ماذا كنت أفعل في حزيران 1967… لماذا لم أبصق على هذا النظام الذي جلب الهزيمة؟
ماذا كنت أفعل في صباح السادس عشر من تشرين الثاني 1970 عندما حاصرت دبابات وزير الدفاع بيت رئيس الدولة الذي كان يحاول إصلاح ما يمكن إصلاحه؟
ماذا كنت أفعل عندما كان النظام يغتال خصومه في الخارج واحداً تلو الآخر؟
ماذا كنت أفعل عندما دخل جيش بلادي أراضي دولة مجاورة بدل أن يذهب ليحرر الجولان؟
ماذا كنت أفعل عندما أسمع عن التجاوزات التي يرتكبها جيش بلادي في أرض البلد الشقيق؟
ماذا فعلت عندما ذُبح الفلسطينين في تل الزعتر على أيدي جنودنا ..؟ لماذا لم أقل شيئاً؟
ماذا كنت أفعل عندما وضع النظام خيرة أبناء البلد خلف القضبان بدون محاكمة؟
ماذا كنت أفعل يوم قصفوا سجن تدمر؟
ماذا كنت أفعل خلال شهر شباط 1982…؟ أحداً لم ينسى خلال هذا الشهر أن يفتح فمه ليأكل ولكن كثيرين نسوا أن يفتحوا أفواههم لينطقوا بكلمة حق … حينها أيضاً صدقنا رواية النظام وخدَّرنا ضمائرنا.
ماذا كنت أفعل حين كانوا يعيدون انتخاب الرئيس بوقاحة لا توصف؟
ماذا فعلت من أجل 200 ألف كردي بدون جنسية في حين أنهم موجودين على هذه الأرض حتى قبل أن تسمى سوريا؟
ماذا فعلت من أجل كُلّ الأكراد الذين مُنعوا من الحديث بلغتهم الأم؟ والذي لم يعش خارج بلده لا يعرف ماذا يعني أن يُحرم انسان من لغته الأم.
ماذا فعلت عندما تم توريث الجمهورية وتحويلها بشكل نهائي إلى مزرعة؟
ماذا فعلت عندما قام الرئيس الشاب الاصلاحي بعد أقل من عام على وراثته العرش بإغلاق النافذة الوحيدة التي فتحت في النفق المظلم “منتدى الأتاسي” وإلقاء بعض أعضائه في السجن …؟
ماذا فعلت لأساند الأكراد في انتفاضتهم في 2004 والذين كان لهم السبق بتحطيم أول صنم للراحل؟
ماذا فعلت عندما وضعوا أعضاء منتدى الأتاسي في السجن في أيار 2005 لأنهم حاولوا ورغم كل المصاعب إعادة فتح نافذة ضوء في سورية الظلام.
ماذا فعلت عندما اعتدى رجال الأمن “بالثياب المدنية” على شبان وشابات تجمعوا بشكل سلمي للمطالبة بالأفراج عن أعضاء المنتدى؟ لم يسلم أحداً من الضرب، ومن الذين انهالت عليهم اللكمات فتاة من عائلة حازم نهار.
ماذا فعلت عندما اعتدوا بوحشيتهم المعتادة على تجمع سلمي في الثامن من إذار 2006 للمطالبة بإلغاء قانون الطوارئ المُطبق منذ انقلاب 8 إذار 1963 ؟ اعتدوا على جميع الحاضرين بمن فيهم سمر يزبك، والذين قاموا بالاعتداء لم يكونوا فقط من رجال الأمن وإنما شاركهم بمهمة حماية هيبة الدولة طلاب في جامعة دمشق.
ماذا فعلت عندما اعتقلوا طل الملوحي بتهمة كتابات تهدد الأمن أو الشعور القومي الله أعلم … ماهذا الشعور القومي الذي تضعفه الكتابة ألم نسأل أنفسنا؟
ماذا فعلت من أجل كُل الذين تم تعذيبهم وإهانتهم وقتلهم على أيدي نظام الأسد أباً وابناً؟
والجرائم التي كان بإمكانها أن تحرك إنسانيتنا الصامتة لا تعد ولا تحصى … والخافي أعظم.
ليس لنا أن ننتقد الطابع العسكري للثورة في حين أننا لم نحرك ساكناً لمساندة التحركات السلمية قبل الثورة وبعدها.
لا يحق لأياً كان أن يقول أنه لم يكن على علم. وكما أمام المحاكم لا يحق الاعتداد بجهل القانون فإنه لا يمكن الاعتداد بجهل ما حصل ويحصل على أرض بلدنا في حين أنه بالإمكان المعرفة “لو أردنا”، كلنا كنا نعلم و كلنا أشحنا الرأس وأغمضنا العينين عن الجريمة المستمرة منذ أربعين عاماً.
هنا مكمن الاستعصاء السوري، في أننا لا نريد الاعتراف بأننا أخطأنا على مدى أربعين عاماً، لا نريد الاعتراف بأننا قبلنا فساد النظام وشاركنا به في بعض الأحيان
لا نريد الاعتراف بأن خَيار “الحيط الحيط ويارب السترة” لا يتماشى مع الطبيعة الانسانية وإذا تماشى في بعض الأحيان فذلك لأننا ألقينا بإنسانيتنا على قارعة التاريخ.
لا نريد الاعتراف أنَّ قلة قليلة منا كانت على حق ودفعت ثمن مواقفها سجناً وتعذيباً وإهانات طالت الأهل والأصدقاء، عندما أخبرتنا أن النظام يستمر بفضل اسرائيل، أن حزب الله مقاومة كاذبة –على مستوى القيادة- أن علمانية النظام علمانية كاذبة تُغذي الديني وتُضعف الروحاني الإيماني، أن المعركة التي يعلو صوتها فوق صوت حقوق الانسان، فوق صوت العدالة، هي معركة خاسرة.
نعم كان هناك سوريات وسوريين من جميع الاتجاهات قد أخبرونا بحقيقة النظام وبحتمية الكارثة، فعلوا ذلك في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات وفي الألفية الإصلاحية ولكن أحداً لم يسمعهم واستمر كثير من السوريين على مذهب “الحيط الحيط ويارب السترة”
إذا كُنّا لا نعرف من هم هؤلاء السوريون الذين ضحوا منذ سنوات طويلة من أجل سوريا أفضل، فهذا خطأنا نحن.
الآن، دم الشهداء يمنح جميع السوريين فرصة أخيرة للعودة عن هذا الخطأ، خطأ السكوت عن الحق، خطأ عدم التحرك لإيقاف مذبحة يرتكبها بضعاً من ابناء هذا الوطن بحق أخوةٍ لهم.
التغيير مؤلم ولكنه حتمي والأفضل أن نكون لاعبين فيه بدل أن يفرض علينا كنتيجة جاهزة.
الثورة تُخطأ أحياناً ولكن هذا شيء طبيعي في أي ثورة، وبدل إضاعة الوقت في نقد أخطاء المعارضة والثوار فالأفضل أن نشارك في تقويم مسار الثورة ودفعه بالاتجاه الصحيح بدل إرضاء الذات بعبارات من مثل “يعني فكرك اللي جايي أحسن” أو “شفتو شو عملو الثوار تبعكن” أو “ياأخي أنا مع التغيير ولكن التغيير لازم يكون للأفضل”
العبارات الثلاثة السابقة وهي الأكثر استخداماً من مواطنين المنطقة الرمادية، هي عبارات لا تستند إلى أي منطق تاريخي أو اجتماعي أو سياسي فالأولى تقوم على افتراض أن القادم الذي سيحكم بعد الثورة سيكون أسؤ وهذا الافتراض لا يوجد له أي معطى تاريخي سوري يسنده ذلك أننا محكومون منذ أربعين عاماً بدون أي تغيير في السلطة، والعبارة الثانية تفترض أن كلمة ثائر= وليّ صالح وأنه لا يحق له الخطأ وهذا يدل على أننا نجهل تاريخ الثورات في العالم وبحكم أننا جزء من هذا العالم فلما ينبغي على ثورتنا أن تكون مختلفة عن ثورات الآخرين وأياً كان فالموضوع ليس موضوع تقييم، فليس هناك ثورة أفضل من ثورة، كل شعب يثور بطريقته التي تنبع منه وفي اللحظة التاريخية المواتية لطبيعته وهذه اللحظة كلحظة الزلزال لا أحد يستطيع التنبأ بها ولا أحد يستطيع إخضاعها لمحاكمة قيَمية، الشيء الوحيد المُجدي هو التعامل معها. أما العبارة الثالثة ” التغيير يجب أن يكون نحو ما هو أفضل” فهي عديمة المنطق لأن أهمية التغيير لا تكمن فيما يأتي وإنما التغيير بحد ذاته هو عملية ضرورية لأن السكون عَفَن وموت ولم يحصل عبر التاريخ أن شعباً ما استطاع أن يضمن أن ما يأتي بعد التغيير سيكون أفضل مما سبق، ولا يحتاج الأمر لكثير من الحنكة والمعرفة لمعاينة أن وضع بلدان أوروبا الشرقية في التسعينيات –أي بعد التغيير- كان أسؤ من وضعها في الثمانينيات –قبل التغيير- ولكن هذه المعاينة البسيطة لا تُغير شيئاً من حقيقة أن التغيير الذي حصل كان يجب أن يحصل وأنه كان من الاستحالة بمكان الاستمرار بهذه الانظمة العفنة.
إذا كان دم “اللي راحوا” يمنحنا شيئاً ما فهو بالتأكيد يمنحنا صك غفران عن صمتنا الذي دام وطال يمنحنا لحظة حقيقة وعُري أمام ذواتنا وأمام “اللي راحوا” تمكننا من معاينة الحقيقة وجهاً لوجه، لا حاجة للتحليلات السياسية لمعرفة الحقيقة، لاحاجة للقنوات الأجنبية ولا القنوات المحلية لمعرفة ما يحصل، في قرارتنا نعرف تماماً من هو المجرم فلما اللف والدوران، وأياً كانت أخطاء الضحية، وأياً كانت أخطاء محامي الدفاع فالأهم هو الإمساك بالمجرم الذي مازال طليقاً ومستمراً في جرمه.
إذا أردنا أن نعرف ماذا يحصل في سوريا فعلينا أن نعرف ماذا يعتمل في عقول وقلوب السوريين الصامتين، هنا تكمن المشكلة وهنا يكمن الحل، أما تدخل الناتو من عدم تدخله، رضاء اسرائيل أم عدم رضاها، رغبة تركيا وقطر والسعودية أم عدم رغبتها، كُلّ هذا يأتي في مرتبة مُتأخرة.
السوريون الثائرون بدأوا طريق الخلاص، ولكي يستطيعوا إتمام هذا الطريق يجب أن يلحق بهم السوريون الصامتون. هنا مربط الخَيل، واللهُ أعلَم.
وعلى كافة الأحوال فالنصر آتٍ لأنها حتمية التاريخ وإرادة شعب.