بعض ما كتب عن اضراب 36 في دمشق، ربما نحتاج أن نتذكر ذلك في هذه الأيام…
بدأت ثورة عام 1936 بحملة احتجاج قادھا فخري البارودي ضد شركة كھرباء دمشق لرفعھا تعرفة الترامواي نصف قرش .. من ھنا انطلقت شرارة أعظم اضراب وأطول موجة احتجاج جرت في العالم حتى ذلك الحين، فما أن أعلن الاضراب العام وقامت التظاھرات في دمشق حتى عمت المدن السورية جميعا، وفورا انقلب الاحتجاج على شركة الكھرباء الى المطالبة بالاستقلال.
إن الطلاب ھم من أھم العناصر الثورية وھكذا قادوا في سورية تلك الثورة السلمية الكبرى التي استمرت ستين يوما.
وكانت صحف دمشق تفرد كل يوم معظم صفحاتھا لنشر ما تسمح به الرقابة من أنباء تلك المظاھرات والاضرابات والقتلى والجرحى، يوما بيوم.
كنا بعد انتھاء مھمتنا في تأمين سير الاضراب في الاوساط الطلابية، نذھب الى الجامع الأموي حيث ملتقى المتظاھرين من كافة أبناء الشعب، وھناك تتكرر المناوشات الدامية اليومية، أما ساحة المناوشات فكانت تتراوح ما بين شارع جمال باشا والباب الغربي للجامع الأموي – باب سوق المسكية – وكان سلاحنا الحجارة وقذائف الشتائم، وكان خصمنا قوى الأمن والجنود الفرنسيين، وكثيرا ما كانت تتدخل مصفحات الجيش عندما نتغلب على قوات السلطة، وقد سجل رفاقنا الطلاب والشباب من البطولات في ھذه المعارك غير المتكافئة ما لم يجر له نظير . كانوا يھاجمون بالحجارة المصف حات التي تمطرھم بوابل من الرصاص .
وعندما تشتد وطأة المعركة ويسقط العديد من القتلى والجرحى كنا نرتد الى الجامع الأموي، فھو قلعتنا التي لا تقتحمھا قوات الفرنسيين حرمة واجلالا… وآنذاك تبدأ عمليات نقل الجرحى من باب المسكية الى الباب المقابل له من الجھة top online casinos الشرقي ة حيث يتم
تھريبھم الى الأطباء للمعالجة… وكانت الدماء ترسم على بلاط فناء المسجد بين البابين طريقا أحمر وأذكر أنني في حالة من تلك الحالات ساھمت بنقل أكثر من عشرة شھداء من الطلاب وأبناء الشعب.
كنا لا نلبث ان ننظم صفوفنا ونعيد الكرة ونندفع من المسجد غاضبين ثائرين، وھكذا تستمر المعارك، وكان مما يزيد في شجاعة الطلاب والشباب انتشار المظاھرات في كافة أحياء المدينة وتصاعدھا كلما ازدادت شراسة قوى الامن والجيش في عمليات القمع والتصدي.
استمرت ھذه المعارك ستين يوما، ودمشق والمدن السورية الأخرى مغلقة جميعھا من أقصى البلاد الى أقصاھا، وتشكلت في جميع أنحاء البلاد المضربة لجان شعبية تولت عمليات التموين وجمع التبرعات وتوزيعھا، وكان التجار والأغنياء أسخياء في تبرعاتھم، وأعلن كثير من أصحاب بيوت السكن أنھم أعفوا المستأجرين من دفع الأجور طول مدة الأضراب، ومر عيد الأضحى والمدينة مغلقة فتبرع الأطفال بعيدياتھم لأبناء الشھداء وللعائلات الفقيرة، وقرأنا في الصحف أن أطفال ملجأ الأيتام جمعوا كل ما لديھم من أموال، فبلغ المجموع ليرتين سوريتين، فتبرعوا بھا للحركة الوطنية.
ومن أطرف ما حدث أن رئيس عصابة للنشل والسرقة وقف في الجامع الأموي معلنا التوقف عن العمل طالما الاضراب قائم والمظاھرات مستمرة.
لم تقع أية جريمة، لا صغيرة ولا كبيرة في جميع أنحاء البلاد خلال شھري الاضراب، فقد طھر المناخ الثوري حتى المنحرفين والمجرمين، وخلق منھم ثوارا مناضلين، وھذا ھو اعجاز الثورات الوطنية التي ترفع الشعب الى مستويات البطولة والاستشھاد …
الأمر الذي اعترف به الأوروبيون أنفسھم، فقد نشرت جريدة “لوجورنال دوناسيون” في جنيف رسالة لسيدة سويسرية مقيمة في دمشق جاء فيھا: “ومع أن الاضراب استمر اكثر من خمسين يوما فانه لم يحدث حادث من حوادث الجنايات العادية وكان الغني يساعد الفقير في ھذا النضال العنيف، ولقد كانت مظاھراتھم رمزا للتضحية العالية التي نقرأھا في الأساطير، وكانت الطبقة المثقفة قائدة ھذه الحملات الجبارة التي قاسى الشعب فيھا ما قاسى وتحمل من الآلام ما تنوء عن حمله أعرق الأمم قوة وحضارة”
كان مما يزيد في تصاعد ھذه الثورة الشعبية العفوية وتماسكھا واستمرارھا اشتراك جميع فئات الشعب فيھا حتى الأطفال والنساء، وكان للنساء دور خطير في استثارة النخوة والحمية عند اشتراكھن بتشييع جنازات الشھداء الذين يسقطون في ساحات الصدام مع الانتداب، وكانت النساء المحجبات تطل من شرفات البيوت فيزغردن وينثرن على مواكب المتظاھرين ماء الورد، كما كان بعضھن يشترك في المظاھرات ويتعرض للاعتقال والمحاكمة والسجن، وعندما انتھى الاضراب كان من بين اسماء مئات المعتقلين نساء أعماق ھذا الشعب كما تدل على ذلك اسماؤھن مثل حفيظة بنت مصطفى اللحام، أديبة بنت محمود العواد، ليلى بنت الشيخ سعيد الحلبي، وحيدة بنت عبد الحميد الحموي، حميدة بنت الشركس، ھدية بنت صالح العاطي الخ ….
(الصحف الصادرة في تلك الفترة).
*المصدر: مذكرات أكرم الحوراني و بعض صحف تلك الفترة ومنها القبس لصاحبها نجيب الريس
——————–
اعداد hdd