الأنا والأنت في الميتامظاهرات[1]
لا أعرف من أين أبدأ، أفكار وكلمات تأكل خلايا رأسي، الذي أريده في هذه اللحظة بالذات هو البوح بما يخنقني منذ خمسة أشهر، شعور يذيبني تماماً وكأنني قطعة جليد ظلت طويلاً مجمدة إلى أن أُخرجت إلى الشمس الحارقة الباردة، لا هي وصلت إلى حال السيلان فانسكبت وسالت… ولا ظلت جامدة حافظة لخاصتها الصلبة. لا أريده بوحاً دون صدى، ولا أنتظر رداً لبوحي.
أشعر أني كبركان مليء بالحمم والنيران والصخور ينتظر ساعة القيامة، أُخمد منذ زمن… لكنه في الصدر لم يهدأ من ثوراته الصامتة.
منذ يوميات الثورة السورية أخذت دائرة النار تكبر في أعماقي، إلى أن مسّتني… قلت الآن… ها هي ساعتي قد حانت… لم أعد احتمال الخمود والكسل والتخاذل والخنوع … سأكشف ثورتي وأنفث لهبي وأمضي إلى المجهول…
كانت رغبتي هذه ضد كل القمع والتناقضات والثنائيات… ضد السلطة الماجنة الراقصة على دمنا… السلطة بكل صورها، سلطة الكلمة، الحزن، الكبت، الأمل، الخوف، والهوى… ضد إخراس عقولنا وتخدير قلوبنا… ضد الصفحات التافهة السخيفة المستخفة بمشاعرنا التي طغت على صُحُفنا وكتبنا… ضد النساء والرجال… ضد الشرق والغرب… ضد المثقفين وأشباههم وضد الموالين… ضد الإنسان اللإنساني والإنساني المسامح… ضد اللاعنف والعنف… ضد الأنثى والذكر… ضد المرآة والصورة… ضد جسدي… ضده هو…. ضدي……… أنا.
أما مأساتي الأزلية فتصب في عقيدتي الميتافيزيقية واحدة القطب… أدخلتني لوجود غير موجود… لا أقول إنه معدوم لأني افترضه موجوداً، هي عقيدة تنادي بوجود اعتمد مسلمة تقليدية لا تتعلق إلا بمنطق مفرداته التي لاقت في معجمي ترتيباً أبجدياً معقداً… ذات وتجليات، مرآة وصور… إلا أن الأصل الذات الأحدية… مرآة وصور تنعكس عن هذه المجلاة الصقيلة… اسم ومعان متنوعة ومختلفة لهذا الاسم الواحد… وهكذا كل تعدد يعود إلى الوحدة… إلى الواحد الأحد… إلى الخالق الصمد…
وإذا كان ذلك كذلك فكل التناقضات في وجودي أصلها واحد… الكره والحب… الظلم والعدل… العبودية والحرية… العنف واللاعنف… الضلال والحق… كلها انعكاسات للحق في مرآة الوجود… وليس عليّ إلا أن ألج هذا الوجود وأفك أسراره وألغازه وانتقل من مقام إلى مقام كي أصل إلى هذه الوحدة… إلى النشوة الإلهية… ويستوي عندي كل تناقض وتضاد…
لكن الوجود العيني غريب بعيد عن هذا الوجود… وجود اتسم بالدماء الطاهرة، بالظلم والاعتقالات والاغتصاب وانتهاك الكرامات وسلب الحقوق… وجود يدّعي الاستقرار ويفرض الأمان والقانون بقبضة من نار ودم وصديد… وجود كاذب عاهر تواطؤ فيه وحوش الدين وفحول السياسة على النَفَس الرحماني والنفْس الكريمة… وجود عجزت عن إعادته إلى الأصل الواحد الأحد…
انقلبت إلى كائن غريب جداً عني… لا أفهمه وبالوقت نفسه أتعلم منه… لم أعد أشعر بوجودي… ولا أراني في مرآة الحق… والنور الذي شاع في طريقي غدا وحشة وقبراً… همي الآن أن أتخلص مني… أن أسكب غضبي وغثياني وعدميتي في وجه وجودي…
منذ بدأ الاحتجاجات والمظاهرات في درعا الجريحة وتبعها إهدار الدم والاعتقالات والتعذيب والحصار قلت في نفسي ألف مرة متى سنخرج هنا في دمشق؟ إلى متى صامتون؟ كيف نحيا ونأكل وكأن شيئاً لم يكن؟ هل نكتفي بالمشاهدة والبكاء والدعاء؟
بعدها بقليل وبعد انتفاض العديد من المدن والمحافظات السورية تحرك شباب حينا ولو كانت تحركات خجولة في البدء والخوف كان سمة كل مظاهرة خرجت.
كل يوم جمعة كنت أنتظر أصواتهم كي تطرب قلبي ووجداني، هم بدأوا بعد بقية الأحياء الدمشقية بقليل، بالأحرى هم خرجوا “طلعات طيارة” بلغة الثوار، إلا أن انتشار الأمن والشبيحة منذ الجمعة الثانية كانتشار الجراد في حقل ناضج ومثمر، وجحوظ أعين العواينية كأعين الذباب على كل بيت ومدخل وحارة أدت إلى تراجع الشباب.
إلى أن جاءت الجمعة التي اجتمع فيها الثوار بشكل منظم وانتهت الصلاة، وأنا بطبيعة الحال معسكرة في كل يوم جمعة أمام نافذة غرفتي من بداية الصلاة إلى نهايتها، خرجوا بعد الصلاة وعلت أصواتهم وصدعت وتسللت في دمي تسلل رائحة الياسمين في حارات الشام القديمة. هللت معهم ومن موقعي -ودموعي تحرق خدودي من شدة الانفعال- هتفت معهم: الله أكبر الله اكبر، الموت ولا المذلة، على الجنة رايحين شهداء بالملايين، ليش خايفين ليش خايفين، الله مع الحق، وين رجالك يا… الله يلعن خوانك، الله سوريا حرية وبس…
جالوا الحارة جيئة وذهاباً، وكلما ابتعد صوتهم عني قليلاً أحزن وأشعر أن الكمامة التي تمد خلايا جسدي بالأوكسجين انسحبت مني… ظلوا على هذه الحالة حوالي الساعة … ساعة من الحرية التي لم يكن بالإمكان أن نحلم بها ولا حتى أن تمر كخاطرة على عقولنا. إلا أن الأمن هذه المرة لم يستطع ترك الشباب بحالهم طويلاً، فأطلقوا الرصاص الكثيف في الهواء من موقعهم، والشباب يهتفون ويصفقون ويتجاهلون الرصاص رغم كثافته ورغم رائحة القنابل المسيلة للدموع التي ذقت طعمها بنفسي وأنا في موقعي.
بعد أن انتهوا قبل العصر بقليل تجمعت حشود الأمن والشبيحة والعواينية مقابل المسجد وأخذوا يهتفون هتافاتهم المعهودة والمنتشرة على القنوات الرسمية للنظام، ثم شاهدت شخصاً يحمل كاميرا التلفاز ومساعده يقفان مقابل هذه الجموع وأخذوا يصورونهم، على أساس أن شيئاً لم يحدث وأن أهالي حارتي خرجوا من الصلاة مهللين يهتفون بحياة الرئيس!
مساءً خرج الشباب مجدداً فرحت بهم كثيراً كفرحة أم بعودة أبنائها بعد غياب طويل…. إلا أن فرحي لم يدم أكثر من ربع ساعة، حيث بدء مجدداً إطلاق الرصاص بشكل أكثر شراسة وكأننا في جبهة حرب مع أشنع الأعداء، ولم أكن أعلم وقتها أن شهيداً سقط برصاص الأمن إلى أن جاء صباح السبت وعلمت أن التشييع سيتم بعد صلاة الظهر. صباح السبت كانت الحارة مغلقة المحلات حزينة ميتة تبكي ابنها الشهيد في ربيع عمره الذي ذهب فداء ربيع الثورة السورية. مع ترددٍ وخوفٍ وألف سؤال وسؤال عزمت أمري وخرجت! ما إن أصبحت بينهم وكانوا قد شكلوا دائرة تضم حوالي 200 شخص حتى انتقلت إلى أرض الحرية والوحدة الوطنية والقلب الواحد والألم والغضب والأمل الواحد.
هتفتُ معهم للحرية وللعزة والكرامة والرحمة على الشهداء الأبطال، صفقنا للثورة السورية معاً، وبعد كل تصفيقة كنا نرفع أيدينا إلى السماء، وبقينا هكذا ندور في حلقتنا إلى أن اتحدت أرواحنا واندمجت، تخللنا في روح الشهيد وأصبحنا نحن هو وهو نحن، واستوت عندي كل التناقضات والتضادات، وشهدت نور روح الشهيد في مرآة روحي، وأيقنت أنه لولا تضحيتك يا غالي لن تعرف الأنفس كرامتها ولن تذق طعم الحرية.
أحببتهم جميعاً، وقبّلت الشهيد الغالي قبلات الإكبار.
خلال نصف ساعة وأنا أهتف وأصفق وأدور معهم في حلقة الثورة مرّت في خيالي بعض من المواقف المهينة التي تعرض لها شعبنا الكريم من إهدار لكرامته وإقصاء ناس على حساب آخرين ومصادرة الرأي الآخر بل وقتله، وتسلط وشراسة واستبداد السلطة… وكلما مررت على موقفٍ صفقتُ أكثر وهتفتُ بشكل أعلى.
في ليلة الجمعة التي تلت جمعة سقوط الشهيد، حَشَدَ الأمن قواته وساندته قوى المخابرات وضباط من الأشكال والألوان التي قد نكون رأيناها في سوريا أو التي لم يبصرها جيلنا. تمركزوا على مداخل حارتنا الرئيسية وأصبح الدخول إلى الحارة والخروج منها بتفتيش السيارات وطلب إبراز الهوية الشخصية لمراجعة اسم صاحبها إن كان في قائمة الإرهابيين والمخربين والسلفيين! كان منظراً مخيفاً وكأننا في يومين وليلة وبقدرة قادر أصبحنا في قلب جبهة حربية، الكل مدجج بالسلاح، وجوه شاحبة وعيون ترمقنا باستعلاء، الغريب أنني لم أكن خائفة، فروح الشهيد سكنت صدري وركنتْ إليها روحي وجاءني الغالي لحظتها مبتسماً وهمس في قلبي: “يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية”.
اليوم التالي أي جمعة الحصار والتطويق منذ الساعات الأولى قبل الصلاة اجتمع المئات أمام المسجد الذي شهد تلك المظاهرة السلمية الرائعة المتحدية لكل أسلحة الأمن وحقد النفوس وشرها، وشبه إليّ وكأني أدركت يوم الحشر في حياتنا الدنيا. ومع أن جيراننا في ذلك اليوم لم يخرجوا إلى الصلاة، بل أعتقد أن أحداً من شرفاء حارتنا لم يخرج أصلاً تفادياً لالتقاء الأعين الطيبة بالأعين الخبيثة، آثرت بعد عصر تلك الجمعة أن أخرج من المنزل لأزور أحد أقربائي! ما إن خطوت خطوتي الأولى عند مدخل البناء حتى انتبه إلي العشرات وأخذوا يراقبون خطواتي خطوة خطوة وكأنني العدو المرتقب. ولحسن الحظ ولسوئه في الوقت نفسه، كانت السيارة بعيدة قليلاً عن مدخل البناء، لحسن الحظ لأنني كنت في قرارة نفسي قررت النظر في وجوههم جميعاً ولن أخاف وسأتحداهم، فكانت هنا مجموعة افترشت على الأرض تأكل وجبة الغداء وأخرى اتخذت ظلاً تحت أروقة مداخل الأبنية هرباً من الحر الشديد، والأغلبية تجول وتراقب … وقل أني كنت كيلى في غابة الذئاب لكن ليلى تلك مذ لبست ثوب الحرية واعتمرت قبعة الكرامة وارتدت حذاء الأمل عرفت طريقها، أو قل كنتُ كإنسان ظل ليالٍ طويلة وحيداً مسجوناً في ظلمة كهوف مصاصي الدماء والقاتلين المتسلسلين إلا أنه أسقط الخوف وأعلن أن دمه مرّ مرارة المس بكرامته، وأسقط معه أساطير الأولين المتكبرين والجبارين مع أول مظاهرة واحدة مطالبة بالحرية والكرامة.
[1] الميتامظاهرات مصطلح اصطنعته وأعني به ما بعد المظاهرات، (الميتا مأخوذة من ميتافيزيقيا أي ما بعد الطبيعة أو ما وراء الطبيعة)، أي وجدان ووجود الأنا بعد أن يخوض تجربة المظاهرة والمناداة بالحرية والكرامة.
بقلم: Sittalsham Alayoubiya
تعليق واحد
شكراً لك، ولكن القسم الأول غير مناسب
الحالة لا تحتمل الترف الفكري الآن