دعوني أقول في البداية أننا أمة “وللأسف” تخجل من ثقافتها وحضارتها، تخجل من تاريخها، من لغتها، ومن كل أصولها الفكرية والثقافية تقريباً ! وكان ذلك بالطبع نتيجة حتمية وواضحة لمن حمل معول الهدم الثقافي خلال سنوات الاحتلال وما تلتها ..
ما يهمني الحديث عنه اليوم هو جانب من جوانب ثقافتنا وحضارتنا الإسلامية، وهو الجانب السياسي، اسمحوا لي في البداية أن أثبت حقيقة تختلط على كثيرٍ منّا اليوم، وهي مدى ارتباط الدين بالسياسة، وما حقيقة مقولة “لا سياسة في الدين” ومدى توافقها مع الإسلام، ومعنى السياسة الإسلامية الذي شابه الكثير من الشوائب بفضل المفاهيم المعلبة التي تُقدّم جاهزةً عبر وسائل الإعلام !
الحقيقة التي أريد أن أثبتها في البداية، هي أن الدين الإسلامي منهج حياة متكامل، وطريقة للعيش وممارسة الحياة بكل جوانبها وتفصيلاتها الصغيرة، والتي من ضمنها السياسة، فالإسلام حياة، منهج متكامل للعيش، وهذا هو الفارق الأساسي بين الإسلام وبين كثير من الأديان الأخرى، بل أجزم أنه لا يوجد دين كما الدين الإسلامي في شموليته، وفي هيكليته الحياتية الضخمة جداً ..
وهذه النقطة بالذات كانت مثار جدلٍ واسعٍ على مدى القرن الماضي وما زالت حتى الآن، فمنذ أن دخل النظام السياسي الغربي وأصبح تقريباً مطبقاً في كثيرٍ من دول العالم، حصل الصدام الرهيب الذي ما زلنا نعاني منه حتى الآن في عالمنا الإسلامي، وهو صدام الثقافة الدخيلة بالموروث الحضاري الهائل، ونتج بالطبع عن هذا الصدام الكثير من الحركات المتطرفة، والتي لم تتقبل ما حصل، ولم تعتاد عليه، فلجأت للتطرف سبيلاً وحلاً للمشكلة ؛ “وليس بحل” !
في ما يتعلق بالجانب السياسي وهو محور حديثي اليوم، أستطيع القول بأن الإسلام جاء للمرة الأولى في التاريخ بما يسمى في مفهوم العالم اليوم “ديمقراطية” ولكنها في القاموس الإسلامي تسمى “شورى”، النظام السياسي الإسلامي جاء كحلٍ ناجعٍ للاستئثار بالسلطة والانفراد بها، جاء بحلٍ منطقيٍ ومقبولٍ لتداول السلطة السلمي، والذي للأسف لم يستمر طويلاً في عمر التاريخ الإسلامي ..
لنثبت حقيقة أخرى أيضاً، وهي أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان قائد دولة بالإضافة إلى كونه نبي، قائد دولة وقائد جيش استطاع بحكمته وحنكته السياسية أن يوحّد أولاً المجتمع المنقسم طائفياً وقبائلياً في المدينة المنورة، ثم استطاع بعد ذلك أن يوحّد الجزيرة العربية، ويجعلها دولة موحدة وقوية، بعد أن عاشت عصراً مظلماً لمئات السنين ..
ولذا فإن الإسلام جاء بنظام سياسي مستقل ومتكامل قد يكون الأول من نوعه في التاريخ، النظام السياسي الإسلامي ضمن حقوقاً كبيرةً لكافّة الفئات المجتمعية، وركّز على بعض الفئات المستضعفة والتي يجب أن يتوفر لها عناية خاصة، وبعكس ما يُثار دائماً من أن الإسلام يزدري حقوق الأقليات الدينية، فأستطيع دحض هذه الأكذوبة ببساطة لأقول أن الإسلام جاء ولأول مرة بتشريع لحماية الأقليات الدينية، لم يوجد من قبل، ويتمثل ذلك بحديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- : “من ظلم معاهداً فأنا حجيجه يوم القيامة”، والمعاهد هو ابن الأقلية الدينية في المفهوم الحاضر، وقد اعترى هذا المفهوم شبهاتٌ كثيرةٌ من ضمنها أن الإسلام يفرض مبلغاً مالياً على أبناء الأقليات “جزية” وعليهم وحدهم، ولكن تجاهل هؤلاء أن المسلمون فُرض عليهم دفع مبلغ مالي أيضاً في النظام الإسلامي “زكاة” ولم يُفرض على غيرهم، ولذا الحالتين متساويتين وهي بمفهومنا الحاضر ضرائب يجب على المواطن دفعها ..
وأما بالنسبة للتفاضل في الأعراق والأنساب فقد نسف الإسلام ذلك تماماً، ويتمثل ذلك في أحاديث كثيرة من أهمها حديث الرسول عليه الصلاة والسلام : “لا فرق بين عربيٍ أو أعجميٍ ولا أبيض أو أسود إلا بالتقوى” ناسفاً بهذا القول عليه الصلاة والسلام كل أشكال العنصرية البغيضة آفة الآفات في العصر الحديث ..
أما بالنسبة للمرأة فالحديث يطول جداً، وليس هذا بالطبع مقامٌ مناسب لذلك، ولكن يكفي أن آخر وصية للرسول عليه الصلاة والسلام في فراش الموت كانت: “اتقوا الله في النساء، أوصيكم في النساء خيراً” ..
المشكلة اليوم ليست في الإسلام، فالإسلام جاء بحلٍ لكثيرٍ من مشاكل العصر التي يعاني منها العالم حالياً ومجتمعاتنا بشكلٍ خاص، ومنها بالطبع المشاكل السياسية، المشكلة في طريقة فهمنا للإسلام، في أفكارنا المسبقة عن الإسلام، في الدعاية الخاطئة والكاذبة التي تمارسها وسائل الإعلام ليل نهار عن الإسلام ..
في العصر الحاضر، لا توجد دولة طبقت نظام سياسي إسلامي على الإطلاق بشكله الصحيح، وعلى الأقل من وجهة نظري الشخصية، كلهم يستغلّون الإسلام لمصلحتهم الشخصية أو فهموا الإسلام فهماً خاطئاً متطرفاً ..
فالمثال على الحالة الأولى “استغلال الإسلام لمصلحة” هي بلا شك دولة “كالسعودية” مثلاً، تدعي أنها دولة إسلامية وتمارس أسوأ أنواع الحكم والمتمثل بحكم الفرد المطلق، وهو من أسوأ نماذج الأنظمة السياسية، والمثال هنا عن ملكية، أما عن جمهورية عسكرية وتأتي “السودان” هنا مثالاً حاضراً وبقوة، فيتستر النظام الحاكم هناك بالإسلام ليمارس أسوأ صور الاستئثار بالحكم وتوزيع المناصب والثروات في الحلقة الضيقة من عائلة الرئيس .. هذا طبعاً مع عدم إغفال “إيران” ونظامها السياسي الذي يحصر السلطة في شخص “الولي الفقيه” الآمر الناهي والمتحكم في كل مفاصل الدولة !
أما لو انتقلنا للحالة الثانية “الفهم الخاطئ للإسلام” فسنجد كلاً من “أفغانستان طالبان” و “صومال الشباب” ولا يحتاج أن أسرد الوضع في هاتين الدولتين، فالوقائع والأحداث واضحة، والمستوى المزري التي وصلت له هاتان الدولتان باسم الإسلام لا يخفى على أحد ..
والنظام السياسي الإسلامي براءٌ من كل هذه النماذج تماماً، وأستطيع هنا أن أحصر صورة النظام السياسي الإسلامي وأشرحه ببساطة، فالسلطة التشريعية في هذا النظام هي من تعين السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية هي مجلس من حكماء ووجهاء البلد يجتمعون ليقرّوا ويجمعوا على حاكمٍ ينتخبونه من بينهم ولهم الحق في عزله، وتمثّل هذا واضحاً في خلافة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وأما السلطة القضائية فهي أرفع السلطات والتي لا يمكن أن يُنقض حكمها، وحكمها يسري على الجميع، ويتمثّل ذلك في قصة علي رضي الله عنه مع اليهودي وقصة الدرع المشهورة، لا أنكر أنه ومع انتهاء فترة “الخلافة الراشدة” وبداية الملكية في الإسلام “الدولة الأموية” أنه حدث اختلاف سياسي كبير، وقد تغيّر مفهوم الحكم الإسلامي الذي بدأ به عصر الإسلام، ولكن مع هذا قدّم لنا التاريخ الإسلامي نماذج مختلفة لأنظمة سياسية كلها كانت إسلامية، ولا نستطيع أن نُخرج أحدها من دائرة الإسلام، فنجد الملكية المطلقة في “الدولة الأموية”، ونجد الملكية الفدرالية وإن صح أن نطلق عليها “دستورية” في “الدولة العباسية” وغيرها من النماذج المختلفة ..
وبعد .. مقالي هذا لإثبات ولإيضاح بعد المفاهيم حول الإسلام والتي اختلطت على كثيرٍ من الناس في هذا العصر، ووالله إن الإسلام قائم بي أو بدوني ولا يحتاج لمثلي ولا لشرحي ..
وأما النقطة الأخيرة فهي أنني إذ تحدثت عن النظام السياسي الإسلامي فلا يعني ذلك أنني أطالب بتطبيقه في العصر الحاضر، لا في سوريا ولا في غيرها، فالأمة اليوم ليست مستعدة لتطبيق النظام السياسي الإسلامي، وأنا بالطبع ضد كل المحاولات الفردية التي تُعلن باسم الإسلام فضررها “برأيي” أكثر من نفعها، وعلى رأي بعض علماء الدين المعاصرين أن الأمة لا تحتاج الآن للنظام الإسلامي ولا حتى لبعد عشر سنوات أو أكثر .. فالركيزة الأولى التي يجب أن تُبنى عليها الدول الآن هي العدل، والإنصاف، ولسنا مستعدون الآن لتحمّل تبعات رفع شعارات غير مسؤولة أو ارتجالية ..
ودمتم
إبراهيم حسن
5/2/2013