أذهل السورييون العالم، وأحرجوه، وقبل ذلك ذهلوا بأنفسهم، اندلعت التظاهرات ولم تنطفأ، لم تتمكن عصابات الأمن وقطعان الشبيحة والآلة الحربية السورية من إخضاعهم، لم يتمكن التواطؤ العالمي و”مؤامرة” الصمت التهام حناجرهم، ثبتت أصواتهم مع الوقت على موقفه، التوجه نحو المستقبل!
سيرورة الانتفاضة
انتفضت درعا لكرامتها وكرامة سوريا واحتجاً على انحسار نفوذها بعد أن كانت إحدى قلاع البعث، انتفضت بانياس على سياسات القمع ذو اللبوس الطائفي والاستهانة بالهوية الثقافية للمدينة، انتفض ريف دمشق تضامنا مع درعاً واحتجاجاً على الفساد والإهمال الحكومي وتلاشي سوق العمل عبر سياسات الانفتاح الاقتصادي الرعناء، قامت في الوقت نفسه حمص تضامناً مع درعا واحتجاجاً على “حلم حمص” الذي استحال كابوساً مطبقاً على أهلها نفذه الوالي “إياد غزال”، شهدت سوريا مشاركات رمزية من قبل المدن الكردية والسلمية ودير الزور والباب وكوباني وطرطوس والرستن وادلب وحماة، انتفضت اللاذقية ضد تشبيح المافيات الأسدية وضد قولبة الهوية الثقافية للمدينة على أهواء فئات من “نخبها” وشبيحتها، وأخذت تلتحق المدن وتنتقل من المشاركة الرمزية إلى حالة من الانتفاض فالتحقت الرستن وتلبيسة وتدمر والبوكمال ومحافظة ادلب وكوباني ومعظم ضواحي ريف دمشق وبعض الأحياء الدمشقية، والتحقت بها دير الزور وحماة لتضفي على الانتفاضة طابعاً كرنفالياً واتسعت الدائرة في أحياء دمشق وريف حلب وأحياء قليلة من حلب و ازداد عدد المدن المتضامنة رمزياً من بعض أحياء حلب والرقة والسلمية وصولاً إلى السويداء وشهبا والقريّة ومصياف وطرطوس.
دوافع الانتفاضة
في سوريا شارع منتفض، تتقاسمه الأرياف والمدن الريفية والمدن الصغيرة ومدينتين كبيرتين (حمص – حماة)، الدافع الأساس لاندلاع الانتفاضة كان الكرامة وإسقاط الطابع الأمني للنظام، للانتفاضة السورية طابع طبقي واضح متأثر بسياسات “الانفتاح الاقتصادي” في العقد الأخير، هذا الطابع الطبقي الوقود الرئيس لاستمراريتها، الشارع المنتفض ينقسم بين مدن عانت من إهمال حكومي تاريخي (دير الزور، البوكمال، تدمر، تلبيسة، ريف حماة، كوباني، حماة، بعض مدن ادلب) ومدن عانت من الهندسة الاجتماعية الجديدة المترافقة مع الانفتاح الاقتصادي ومن انحسار “مجتمع الشغل” (حمص، ضواحي ريف دمشق) ومدن ذات تنوع ثقافي استثمره النظام عبر توتير هذه المدن وهندسة المدينة اجتماعياً بحيث تبدو وجوه الأقليات الدينية كوكيل للسلطة وجزء منها (بانياس، اللاذقية، القامشلي، بعض مدن أدلب). ولعل أغلب هذه المدن تتأثر بكل هذه العوامل سوية وإن بنسب مختلفة.
شعارات الانتفاضة
للشارع المنتفض شعاراته، وهي مختلفة قليلاً عن شعارات الثورات والانتفاضات العربية الباقية، فهي لا تحمل الفكاهة والسخرية التي حملتها الشعارات المصرية، والشعارات التونسية تبزها في همها المستقبلي وبعدها المدني. شعارات سورية يتقاسمها التضامن والتحدي والغضب وسوريا المستقبل. التعذيب والقمع الذي عاشته درعا استدعى مقولات الكرامة والتحدي والغضب، مشاهد القمع والتعذيب والقتل والاضطهاد والتنكيل بالكرامات والتي ينقلها الاعلام الاجتماعي والاعلام الجماهيري تستدعي التضامن ولعل شعار بالروح بالدم نفديك يا درعا هو الشعار الأول الذي تصدح به حنجرة كل متظاهر، القمع الواقعي الذي يعيشه المتظاهرون والذي يخيم على المدن يستدعي شعارات التحدي والغضب والاستقواء بالغيبي، في غمرة التضامن والغضب والتحدي والتي تشكل واقع المتظاهر المعاش تضيع هتافات سوريا المستقبل وتحتل الجزء الأصغر من صدى الشارع.
ميدان الانتفاضة وحاملها
ميدان الانتفاضة السورية الأساسي هو الجامع والتشييع وصلاة التراويح، والمجتمع الأهلي وقودها، لذلك اسباب عديدة، منها الخصوصية الثقافية التاريخية لهذه التجمعات، فهي وفق العرف والشريعة والتقليد والتاريخ تجمعات شبه إلزامية للفرد ولا يجرؤ النظام على إلغائها، وهذه التجمعات بالإضافة لملاعب كرة القدم هي التجمعات الوحيدة التي سمح بها النظام بعد أن ابتلعت دولته التسلطية المجتمع المدني وبعد أن نكلت سلطته العسكرية بالمعارضة السياسية، وقد استطاع فدائيو الانتفاضة وأبطال التنسيقيات من استثمارها لتفجير المظاهرات، المجتمعات الأهلية التي تمتلك الدافع رحبت بهذه المظاهرات حيث الوجوه مألوفة والاستقواء بالآخر لمواجهة العنف السلطوي ممكن، ومجتمعات أهلية ترحب بها بين الحين والآخر للتعبير عن تضامن رمزي يقيها شر إرهاب الدولة الممنهج ويوصل صوت تضامنها إلى المدن المنكوبة.
مدنية الانتفاضة
شكلت دوافع الانتفاضة وشعاراتها وخطابها السياسي روحية مدنية لهذه الانتفاضة، ولكن ذلك لم يستطع أن يجتذب الفئات المدينية ولم يساعدها على رفد الانتفاضة بشكل فعلي قادر على قلب موازين المعادلة.
حيث تقتصر التعبيرات المدنية للانتفاضة على بعض التعبيرات الإعلامية والثقافية والسياسية والحقوقية والميدانية. إعلامياُ، تمكن العديد من المجموعات الشبابية من خلق فقاعات إعلامية بالاعتماد على التدوين وشبكات التواصل الاجتماعي ولعبت قناة المشرق دوراً هاما في نقل خطاب حضاري يتناسب مع روحية الانتفاضة وحافظت الصفحات الفيسبوكية ذات التوجه الأهلي الإسلامي وذات الحضور الكبير على خطاب ينبذ الطائفية والعنف صراحة ولا يخفي تململه من هذه الحالة بين الثنايا. أما سياسياً فقد تمكنت الفعاليات المدنية من التأثير على الخطاب السياسي واحتضانه في حدود ما بات يعرف باللاءات الثلاثة دون أن تتمكن من تكريس مطلب الدولة المدنية كشعار شعبي ضروري لاحتواء خوف الأقليات والشرائح المدينية والمجتمع الدولي. ويبدو واضحاً يوماً بعد يوم أن الفعالية المدنية في الانتفاضة تفقد قدرتها على التأثير في الخطاب السياسي وخصوصاً بعد تسمية إحدى الجمع بجمعة الحماية الدولية وظهور تناقض واضح بين أطراف المعارضة واحتدام الفرز بين معارضة الداخل العلمانية المزاج وبين معارضة الخارج الإسلامية الهوى. حقوقياً، نجحت لجان التنسيق المحلية في انتزاع حضور ومصداقية في شبكات الإعلام الجماهيري وكان للجمعيات الحقوقية الداخلية والخارجية دور مميز في توثيق الانتهاكات وفضحها، غير أن الساحة أيضاً أفرزت اتحاد التنسيقيات كمرصد حقوقي اكتسب حضوراً واسعاً عبر خطابه الأهلي المدلس.
أما ميدانياً فقد امتدت الاجتجاجات إلى بعض الأحياء المدينية في دمشق وحلب واستطاعت أن تنال تضامناً رمزياً من العديد من الأحياء الأخرى، وكان لحمص وحماة والدير دور هام في نقل صورة مدنية لانتفاضة الكرامة، ولكن القمع الغير مسبوق استطاع أن يقطع أوصال المدن وأجبر المتظاهرين على الانتقال من الساحات إلى الأزقة وخفض عدد المشاركين وتنوعهم.
ويمكن لنا أن نفهم هذا الإحجام والضعف في المشاركة على ضوء الممارسات التاريخية والراهنة للنظام السوري، فقد عمل تاريخياً على بناء دولة تسلطية تلتهم المجتمع المدني بكافة تعبيراته السياسية والنقابية والثقافية والطلابية، وقامت أجهزته المخابراتية بالتنكيل بالمعارضة والقضاء عليها، وأقام نمطاً من الاقتصاد الريعي الذي قضى على سوق العمل ومنعه من بلورة تعبيراته، وأبقى الطبقة الوسطى في حالة من الكفاف والعطالة، وعمل على استغلال التنوع الثقافي في سوريا عبر توسيع نفوذه الأقليات الدينية وتشكيل شرائح ذات طبيعة عسكرية مخابراتية بيروقراطية مغلقة ثقافيا ومرتبطة عضوياً بالسلطة، تتهدد وجودياً مع زوال الدولة التسلطية.
وكذلك لعبت الممارسات النظام الراهنة دور كبير في خنق هذه المشاركة وتحجيمها، سواء عبر حربه الإعلامية التجيشية ذات البعد الطائفي والتخويني أو عبر الطوق الأمني الذي فرضه على المدن الكبيرة أو عبر ممارساته الإرهابية غير المسبوقة.
وفضيلة مشاركة الفئات المدنية أنها قادرة، وفي ضوء هكذا عنف، أن تمضي، على الأقل، في عصيان مدني يربك النظام، هذا إن عجزت عن احتلال الفضاءات العامة، وكذلك كان سيكون لها دور في التأثير في القيادة العسكرية والديبلوماسية العالمية أكبر بكثير من التأثير الحالي لفعاليات الانتفاضة فضلاً عن قدرتها على إنتاج معارضة سياسية مجتمعياً بشكل يضمن فعاليتها وعضويتها ووحدتها ويشكل رادعاً لانجرارها نحو خطاب إسلاموي أو طائفي.
ختاماً نقول، كان لأنظمة الديكتاتوريات العسكرية ودولها التسلطية رسالة رثة واحدة، تعطيل فعالية مجتمعاتها عبر ترييفها والهيمنة عليها، ولعل أنظمة دمشق وبغداد كانت الأقسى في ذلك، فاستحالت مدن ذات ثقل حضاري مثل دمشق وبغداد إلى أرياف كبيرة، واستحالت مجتمعاتها إلى غيتوهات مغلقة، ولكن مكر التاريخ كان للنظام السوري بالمرصاد، فالفساد الذي خلقه وكرسه كان العامل الأول في إشعال الانتفاضة وتوليد سياسات متخبطة ساهمت في تأجيج الانتفاضة وتوسيع رقعتها، والمجتمع الأهلي بمدنه الريفية الذي أزكى هيمنته وحضوره والذي كان يوماً الرافعة التاريخية لحزب البعث أصبح اليوم وقود الأنتفاضة وأصبحت ثقافته العامل الضامن لاستمرارية الانتفاضة واستحالة إخمادها. ولكن ذلك لا يمنع الانتفاضة السورية من مآلات خمينية إن لم تستطع الفعاليات المدنية من فرض حضورها والحفاظ على روحية انتفاضة حسام عياش وأنس الشغري وغياث مطر وحمزة الخطيب ومعن العودات.
—————————-
وجد شعلان | مدونة سيروريا