من مجموعة ثورة حياة
—————————–
الإهداء: إلى نيرودا.. طفلي, وكل أطفال اللحظة الراهنة…
في هذا الزمن الرخو, متسع من وقت, للحديث عن جمهور, آثر الدخول إلى تاريخه, على الرغم من فوهة دبابة, كان يفترض بها أن تكون عتلته في الصعود إلى ما يشتهي. ثورة مضادة, كعادة كل الثورات المضادة, تعتلي أسطح عالية, وتطلق النار, بثقة الجبان, على الرؤوس العارية؛ وهاهي الرؤوس, تتساقط كالتفاح, موسم سقوط التفاح, فليفخر سادة الظلام, إذن, بالتصفيق, لانتصارهم السهل, والمؤقت.
استمناء إعلامي, كما يجب أن نسميه, يلتقط الحدث المفبرك, داخل أقبية التحقيق, الملوث بجنون القتل, ويعيد صياغته, وفق قواعد اللغة الركيكة, ليخرج للعالم حدث- مسخ, يعبر عن الموقف الوطني لأسياد الوطن. وماذا تريدون وضوحاً أكثر من ذلك, يقول المولودون من الخلف؟ لا شيء, فالجريمة- المشهد, كاملة المواصفات والوضوح, ولا تعليق على سوء الإخراج.
.. بيد أن لجنون القتل والنفاق الإعلامي المرافق له ما يبرره, فالأشباح السوريين, لم يعودوا أشباحاً, أصبحوا ماهييات تقرر وتفعل ما تقرره, وهذه الأشباح ذاتها كانت قد قررت عبر انتفاضتها, أن تتحول إلى مواطنين, إي إلى كائنات بشرية, تعرّف بفاعليتها وبقدرتها على ترجمة هذه الفاعلية التاريخية. وهو حدث مفاجئ حتى لأكثر العقول السلطوية شطحاً بالخيال. من أنتم؟ يردد الصوت السلطوي مردداً صدى جاره الليبي. ألم أقتلكم عبر أربعين عاماً؟ بلى قتلتنا بيد أنك نسيت أن تدفن أحلامنا, وأنت اليوم تقاتل حلمنا الجمعي, وتجلياته على الأرض.
*********************
ما يحدث على أرض البلاد العربية, أكبر حتى من مفهوم الثورة التقليدي, ما يجري فعل هدم لكل البنى الثقافية, والسياسية, والاجتماعية, وحتى النفسية, هدم لبنى تم تشكيلها عبر عقود, بما ينسجم ومزاج السلطان, وضمان استمراره في سدة القمع, وهو هدم لجدار الخوف والصمت المرافق له أيضاً, هدم لكل ما قنعوا الشعب به بأنه تابو مقدس, لا يصح سوى تقبيل حذائه؛ وهو أيضاً فعل بناء, ينطوي على إعادة تشكيل الهياكل التنظيمية للمجتمع, وإعادة بناء مؤسسات كانت قد فسدت بما فيه الكفاية, وهو أيضاً إعادة بناء للإنسان نفسه الرافعة التاريخية لمشروع التغيير.
وأما العنوان العريض لمشروع التغيير الجاري العمل عليه, فهو حق الشعوب العربية في أن تدخل التاريخ, تاريخها, لا أكثر ولكن ليس أقل. وأن تكون هذه الشعوب, فاعلة في بناء هذا التاريخ, لا منفعلة فيه. فهل نطلب الكثير؟
تأبى الذاكرة الجمعية أن تستعيد تفاصيل العقود الأربعة الماضية, إذ لابد للسؤال أن يقفز مباشرةً: كيف صبرنا على مضي هذه العقود؟ كيف صبرنا على هذا الجحيم؟ من هذا السؤال السهل, والبسيط, يصبح التراجع والعودة إلى الوراء مستحيلاً, فالقرار الجمعي اتخذ: لن نسمح لأطفالنا المقبلين إلى الحياة أن يكرروا السؤال, ويكرروا المأساة.
في هذه اللحظات من تألق الشعب في سياق فعله الإبداعي, ترصد عدسة التاريخ, انتقام أعداء التاريخ, أسياد الظلام… مندسين, ينعتون الشعب, ورعباً يرتجفون, من تحرك خطاه, المتباطئة, ولكن الثابتة. سلفيين.. يكرروا, ويردد خلفهم صغار أزلامهم, مرتجفين بدورهم, مما ستحمله الأيام القليلة الباقية من فساد أيامهم الفاسدة, ويبحثون في وعاء اللغة الركيكة, عن مرادف للحظاتهم الأخيرة, غرر بنا الإعلام الرسمي, سيقولون بعد فوات الأوان, اصفحوا عن سفاهتنا, سيتوسلون الشعب, فات الأوان يعلن من يصنع ثورته.
فات الأوان, والأنظمة الحاكمة, في البلاد العربية ترتجف الآن…فشبح القوى المسحوقة لم يعد شبحاً, صار واقعاً, ومن حسن حظنا, نحن الأجيال المقبلة منذ قليل إلى الحياة, أن نشهد حدساً بهذه الضخامة, أن نشهد ثورة, في مرحلة أسقطت من مفرداتها مفهوم الثورة كما مفهوم حاملها, أي القوى المسحوقة, وهو إسقاط جريء, كان قد جرى العمل عليه منذ عقود, في سياق تحويل هذه النظم سيئة الصيت شعوبها إلى جمهور, أي أشباح, تكتفي بالتصفيق والتلويح.
طويت هذه المرحلة من غير رجعة, على الأقل هذا ما يشير إليه الحدث الراهن, فخلف المشهد الحالي لاحتدام الصراع, ينمو شيء من الصعب تجاهله؛ في الحقيقة تنمو ثقافة بدأت تغرس في الذاكرة الجمعية للأجيال الأقل عمراً, وهي ثقافة ترى في الفرد صيرورة مفتوحة على الفاعلية التاريخية للبشر, حتى وإن لم يكن هذا التصور متبلوراً على مستوى الوعي الشعبي إلا أنه بدأ بالتبلور على مستوى الممارسة.
تحتكم الثورة الدائرة على أرض الساحة العربية إلى التاريخ وليس إلى اللحظة الراهنة. وهي لهذا السبب بالتحديد لا تنظر بعين الربح أو الخسارة لما سيترتب على هذه الثورة, بل تنظر لما يمكن التأسيس له, في صنع مستقبل, حسم أمر قدومه, وهي ثورة تنطوي على إيمان عميق لدى الشعوب صانعة ثورتها, في قدرتها على ما تراه حقها المشروع في أن يكون لها الكلمة العليا, في صنع ملامح المرحلة. وهذا الإيمان ذاته من الصعب على الدبابة كما باقي الأسلحة التي تكشفت عنها المخيلة البشرية من زعزعته أو هز أركانه.
المجتمع السوري يولد من جديد, يولد في هذه اللحظة بالتحديد, لم يكن هناك من ولادة سابقة, أو بداية في مكان ما, إنها البداية الأولى والأكثر جذرية, إنها ما علينا أن ندعوه بالقطيعة التاريخية.
لا تمس المسألة مجرد إسقاط نظام على ما لذلك من أهمية, بل المسألة تمس نمطاً كان سائداً منذ عقود مضت. إن ما يصنعه الشعب السوري هو نهضة بكل ما للكلمة من اتساع, وهي النهضة الأولى في تاريخنا, وهي النهضة التي تستحق اسمها ومدلولاتها.
إن المخاض الذي نشهده اليوم هو نقض كامل المواصفات لعقود الانحطاط الماضية, بكل تفاصيلها وكل تجلياتها.
اليوم, واليوم فقط تختبر المفاهيم على أرض التجربة, وتختبر معها مفردات الحياة ذاتها, اليوم يتجلى المعنى في التاريخ, لا تاريخ بلا معنى, ولا معنى بلا إنسان صانع المعنى في التاريخ.
يبتكر اليوم السوريون أسطورتهم يتقدمون .. هكذا واثقين من اقتحامهم للتاريخ هو لأول مرة تاريخهم, وكل تاريخ قبله ساقط؛ متى وكيف اكتشفنا مفتاح اللغز؟؟ لا أحد يعلم بالضبط, كيف انبرت جموع السوريين تدافع عن حقها في الحياة, حقها في الحياة لا أكثر ولكن ليس أقل. ولكننا سنعلم فيما بعد أن زقزقة عصافير درعا كانت كفيلة بإيقاظنا, إيقاظ الروح النائم في أعماق قهرنا. وسنتذكر أن النداء أتى من هناك, من الجنوب.
سيتذكر السوريين جيداً تاريخ الخامس عشر من آذار باعتباره عام التحولات الكبرى, عام التغيير بامتياز. وهو ليس تغييراً شكلياً ولا مؤقتاً, بل هو تغيير جذري يسعى إلى حمل البنية الاجتماعية السورية من موقعها في هامش التاريخ إلى موقعها في قلب التاريخ.
وإن أهم ما سيجري العمل على تحويله هو كسر سلطة اللون الواحد على الحياة السياسية والاجتماعية وحتى الثقافية, وتقدم طرف جديد في هذه المعادلة: الشعب. الشعب بكل قواه وتلاوينه.
تعليق واحد
تنبيه: التاريخ حين يتجلى… « مختارات من الثورة السورية