بقلم: وسيم الحموي
———————
يدور جدال كبير مؤخراً حول موضوع التدخل الخارجي و التدخل العسكري في سوريا، و ذلك غالباً مقابل نداءات كثيرة تدعو لاستمرار الثورة بشكل سلمي بعيداً عن أي تدخل عسكري. يبدأ هذا الجدال بتباين في وجهات النظر، و ينتهي عادة بالتخوين و الإقصاء و رفض الآخر. رغم اتفاق أطراف المعارضة على موضوع إسقاط النظام، إلا أن طريقة هذا الإسقاط هو للأسف نقطة خلاف رئيسية، تعطل و تعرقل عمل المعارضة السياسية، و تطيل من عمر هذا النظام. بالإضافة إلى ما أدناه 35 شهيداً يومياًعلى الأراضي السورية، تشكل هذه الخلافات و الانشقاقات السياسية قلق و إحباط أنصار الثورة السورية، و ابتعاد الحياديين و المراقبين من السوريين *.
من الممكن ملاحظة خطابان سياسيان منفصلان ، أحدهما مؤيد و الآخر معارض للتدخل العسكري الخارجي. هذان الخطابان موجهان لفئتان مختلفتان اختلافاً كبيراً أحدهما موجه للمناطق الهادئة نسبياً (كخطاب هيئة التنسيق أو تيار بناء الدولة مثلاً) ، و الآخر موجه للمناطق الساخنة في حمص و إدلب (كخطاب المجلس الوطني). غالباً ما تكون محاولات الحوار بينهما تصادمية و تخوينية، و ذلك لأن كلاً منهما غالباً ما يتحدّث عن موضوع مختلف عن الآخر. هذان الخطابان، رغم تصادمهما المستمر، إلا أنهما يتجاهلان كل منهما الآخر بطريقة مقلقة. يستمر كل من الخطابان بالتركيز على نقد الآخر، و يفشل فشلاً ذريعاً بتمييز إيجابيات و ضرورات و أسباب وجود الآخر.
جزء كبير من الخلاف بين مناصري أي من وجهتي النظر سببه غياب الوضوح و الدقّة في فهم مصطلحات مثل حماية المدنيين، الحظر الجوي، التدخل العسكري و التدويل و غيرهم، و يضاف إلى ذلك الاتّجار السياسي و الاستغلال لها من قبل بعض الأطراف. بعيداً عن التهجّم على أي من وجهتي النظر، تحاول هذه الورقة توضيح الحاجات المختلفة للمواطنين السوريين، و تحليل الخطاب السياسي المتعلق بها. كم أنها تحاول أن تلقي بالضوء على إمكانيات التسوية بين وجهتي النظر هاتين.
أذكر هنا أن هذه الورقة لن تتطرق لمن يطلب التدخل العسكري لتحقيق أهدافه و مآربه السياسية الضيقة، بغض النظر عن وجود أو عدم وجود حاجة إنسانية حقيقية له. سأركز هنا فقط على التدخل العسكري كأحد الحلول المقترحة لتحسين الوضع الإنساني في بعض المناطق السورية.
حاجات متنوعة و توقعات مختلفة:
من السهل على مراقب خارجي حيادي أن يرى أن الوضع الميداني في سوريا ليس على سوية واحدة، و يمكن تصنيفه في مجموعتين رئيسيتين: مناطق ساخنة و مناطق باردة، و تنتشر بينهما طبعاً مناطق تختلف في مدى تأثرها بالأحداث. هذه الرؤية هي بالتأكيد أصعب بالنسبة للمواطنين السوريين أنفسهم. انطلاقاً من هذا الانقسام، تختلف حاجات المواطنين، و تختلف مطالبهم و توقعاتهم.
في المناطق ساخنة هناك حاجات إنسانية حقيقية للمواطنين الذين يعيشون أو يأتون منها ، و قد صدرت العديد من الدراسات و التقارير التي تتحدث عن الوضع الإنساني المرهق الذي يعيشه المواطنون في هذه المناطق. يتعرض الناس للقصف، و الاعتقال، و التهجير، و القتل، و المضايقات، و ذلك بالإضافة لندرة موارد الحياة الأساسية من ماء و غذاء. تلبية هذه الاحتياجات الانسانية هو ضروري و عاجل جداً، و انطلاقً من الحالة الطارئة في هذه المناطق يجب التركيز على عبارة “عاجل جداً”.
في الوقت نفسه، الوضع الميداني في المناطق الهادئة، و على قساوته، لا يشكل حالة إنسانية عاجلة على نفس المستوى.
من هنا يمكن البدء بتحليل حاجات و توقعات المواطنين السوريين المختلفة باختلاف أوضاعهم.
يقع المواطنين في المناطق الساخنة ضمن مجموعة الفئات التي تحتاج مساعدات إنسانية و حماية لحقها بالحياة. إنسانياً و أخلاقياً، حق الحياة للإنسان هو مسؤولية تقع على عاتق كل البشر. ضمن مفهوم “مسؤولية الحماية”**، حماية حقوق الإنسان هي مسؤولية الدولة و من ثم المجتمع الدولي، و ذلك عندما تعجز الدولة عن حماية حقوق مواطنيها، كما هو الوضع في سوريا.
يتوقع الناس في هذه المناطق فعلاً سريعاً و فورياً لتحسين أحوالهم. و منه نرى مطالب هذه المناطق بالحماية الدولية و الحظر الجوي و التدخل الخارجي بكافة أشكاله. مطالب الغالبية الساحقة من هذه الفئة هي إنسانية بحتة، و طبيعية في ظل الظروف التي يعيشونها. كما ذكرنا في ورقة أخرى ** فإن فكرة التدخل الإنساني العسكري هي فكرة جذّابة توحي بوجود قوى خارجية كبرى قادرة على حماية الإنسان، و يتشبث سكان المناطق الساخنة بهذه الفكرة الجميلة بغض النظر عن واقعيتها أو مصداقيتها.
مطالب هذه الفئة و بشكل طبيعي هي قصيرة المدى، ملحّة و غير سياسية، و ليس من أولوياتها الأهداف بعيدة المدى للثورة. لهذا السبب يجد العديد من هذه الفئة أنه من الاستحالة بمكان أن يروا في الخطاب السياسي الذي يتحدث عن الحلول طويلة الأمد و الأهداف بعيدة المدى لرفض التدخل أو للسلمية مثلاً العسكري حلّاً مناسباً لهم. من الجدير بالذكر و التأكيد أنّ هذه المطالب هي إنسانيّة بحتة، و هي لا تعي بالضرورة حقيقة أو أبعاد التدخل الإنساني العسكري أو خلفياته التاريخية و السياسية.
أمّا في المناطق الأقل سخونة و الباردة نسبياً حال المواطنين لا يشكل وضعاً إنسانياً خطيراً، و هم ليسوا من الفئة التي تحتاج أو تقع تحت بند التدخل الإنساني. حاجات الناس في هذه المناطق هي في أغلبها لا تتعلق بوضعهم الإنساني، و يمكن القول أنّها نسبياً سياسية. تصبّ هذه المطالب في خانة المطالب العامة و الأهداف الرئيسية للثورة، و يسمح وضعهم المرتاح نسبياً بأن يحافظوا على خطاب سياسي ذو أهداف بعيدة المدى. يمكن القول بأنّ حاجات ساكني هذه المناطق هي غير ملحّة، وهم قد لا يرون في التدخّل الإنساني العسكري حلّا مناسباً لهم.
رغم أن البعض يرى في التدخل الخارجي وسيلة ناجعة لإسقاط النظام و تخفيف الضغط على المناطق الساخنة، إلا أن البعض الآخر يرى أنه قد ينتهي بخسارة كافة منجزات الثورة. بالمقابل هناك أيضاً فئة ترى أنه على الرغم من أنّ التدخل العسكري قد يتسبب بخسارة أهداف الثورة بعيدة المدى، إلّا أنهم يرون أن حماية المواطنين و تأمين المساعدات الإنسانية لهم هي ذات أولوية لا يمكن غض النظر عنها.
هناك بالطبع أيضاً من يطالب بالتدخل العسكري الخارجي لتحقيق أهداف سياسية بحتة، و ذلك بغض النظر عن الحاجة الإنسانية له، و لن أتحدث عن هذه الفئة هنا لأنّني شخصياً أرى أنهم يقعون في خانة المتاجرين بالثورة و بدماء المواطنين السوريين. من هذه الفئة مثلاّ من طالب بتدخل عسكري غير قانوني و بمراحل مبكرة جداً من الثورة، بالتحالف مع قوى محلية و إقليمية، و ذلك خارج نطاق مجلس الأمن.
مما سبق ممكن أن نوجز الأفكار التالية:
– مناطق ساخنة ذات حاجات إنسانية، مطالبهم العاجلة تنحصر في تحسين وضعهم الإنساني، و لدى الكثير منهم القناعة بأن التدخل العسكري الخارجي هو من سينقذهم.
– مناطق غير ساخنة ذات حاجات سياسية يرفضون التدخل الإنساني العسكري و يرون أنه سيزيد الوضع الإنساني سوءاً.
– مناطق غير ساخنة ذات حاجات سياسية يرون في التدخل الإنساني العسكري حلّا مناسباً للوضع الإنساني الحرج.
الخطاب السياسي و الحلول المتعلقة بالتدخل الخارجي:
من منطلق الحاجات و التوقعات يمكن أن نحلّل استجابة أطراف المعارضة و تعاملها مع الحاجات السابقة الذكر. يمكن تمييز خطابان سيسيان، منفصلان و متحاربان إلى حدّ بعيد.
- · خطاب معارض للتدخل العسكري الخارجي:
– خطاب سياسي يطالب باستمرار سلمية الثورة، و يرفض كافة أشكال التدخل العسكري الخارجي، كخطاب تيّار بناء الدولة مثلاً. هذا الخطاب يركز على الأهداف بعيدة المدى، و يتوجه بخطابه للمناطق الغير ساخنة، و يتجاهل إلى حدّ بعيد الوضع الإنساني الحرج في المناطق الساخنة. جمهور هذا الخطاب هم غالباّ من المناطق الهادئة نسبياً، و خاصةً ممن يرون في التدخل العسكري شكلاً آخر من أشكال الاستعمار، و بداية لحرب أهلية محتملة.
– خطاب سياسي يطالب باستمرار سلمية الثورة، و يدعو أحياناً و بشكل خجل لشكل معتدل من التدخل العسكري الخارجي. على سبيل المثال خطاب هيئة التنسيق الوطني و الذي بدأ يتحدّث مؤخراً عن قوى عسكرية تونسية و مصرية للمراقبة و حفظ السلم على الأرض السورية. هذا الخطاب أيضاً يركز على الأهداف بعيدة المدى، و خطابه في أغلبه يتوجه إلى المناطق الغير ساخنة، إلّا أنّه يحاول أن يتقدّم ببعض الحلول التي تتعامل مع الوضع الحرج في المناطق الساخنة. كمثيله السابق، جمهور هذا الخطاب هو من المناطق الهادئة نسبياّ، و رغم تقديمه بعض الحلول للمناطق الساخنة، إلّا أنّ تركيزه في أغلب خطابه على عدم التدخل العسكري يجعل هذه الحلول بدون صدى في المناطق الساخنة.
- · خطاب مطالب بالتدخل العسكري الخارجي:
– خطاب سياسي يطالب بالتدخل الإنساني العسكري (عن طريق مجلس الأمن)، و هو الخطاب السياسي الرسمي الذي يعتمده المجلس الوطني. هذا الخطاب موجّه للمناطق الساخنة حصرياً، و يرى أن حماية المواطنين يجب أن تتم عن طريق التدخل العسكري الفوري. جمهور هذا الخطاب هو غالباً في المناطق الساخنة، و بين من يرى أن التدخل العسكري هو الحل الوحيد لحماية المدنيين، و نادراً ما يتوجه هذا الخطاب نحو المناطق الهادئة أو الغير موافقة على حلول التدخل العسكري
– خطاب سياسي يطالب بالتدخل العسكري غير القانوني (دون الرجوع إلى مجلس الأمن)، و منه خطاب بعض أفراد المجلس الوطني، و بعض المستقلين. و هو مشابه للسابق، و لكنه أكثر تشدّداً و ضيقاً و أقل انفتاحاّ في رؤيته.
من الممكن ملاحظة أن هذان الخطابان هما موجهان لفئتان مختلفتان اختلافاً كبيراً و غالباً ما تكون محاولات الحوار بينهما تصادمية و تخوينية، و ذلك لأن كلاً منهما غالباً ما يتحدّث عن موضوع مختلف عن الآخر.
كل من الطرفين يتهم الآخر بخيانة الثورة، و يتبادلان الاتهامات التالية:
– التدخل العسكري هو استجلاب للاستعمار الغربي،
– عدم التدخل يعني التخلي عن المواطنين في المناطق الساخنة و عدم الإكتراث بوضعهم الإنساني،
– التدخل العسكري يعني المزيد من الضحايا و الشهداء،
– عدم التدخل يعني المزيد من قتل المدنيين على يد النظام،
– التدخل العسكري يعني استبدال نظام دكتاتوري بأسوأ منه،
– عدم التدخل يعني القضاء على الثورة و استمرار النظام الديكتاتوري،
بالإضافة إلى العديد من الاتهامات،و التي هي كلها بشكل أو بآخر صحيحة و منطقية. تناقض الاتهامات السابقة الذكر لا يعني أبداً أن أحدهما صحيح و الآخر مخطئ، حيث أن موضوع التدخل الإنساني العسكري بالغ في الحساسية و التعقيد، و من غير الممكن إيجاد أجوبة سهلة له.
إمكانيات التسوية!
موضوع التدخل الخارجي هو موضوع حسّاس جدّاً في سوريا، شئنا أم أبينا، بسبب ثقافة وطنية باهتة أساس الشعور الوطني فيها هو النظر إلى الخارج على أنه العدو، و ليس أي سبب جامعٍ آخر لأبناء الوطن. لذلك فإنه من الضروري جداً إيجاد صيغة جامعة للتعامل مع هذا الملف بشكل بنّاء و غير إقصائي.
للتدخل الإنساني العسكري مزاياه العديدة، و لعل أحد أهمها أنه قد يكون السبب الوحيد الذي يمنع النظام من اقتراف مجازر لم يتورع عن ارتكابها خلال تاريخه الإجرامي الطويل. إلّا أنّ الحصول الفعلي لهذا التدخّل سوف يؤدي حتماً إلى أعداد من الضحايا تتجاوز بكثير أضعاف الأعداد الحالية، و هذه الأعداد لن تكون من الجيش فحسب، بل و من المدنيين أيضاً، و ليس من الجند الداعمين للنظام فقط ، بل و من جند ذنبهم الوحيد وجودهم ضمن قطع الجيش النظامي.
ذلك لا يعني بمكان أن هذا الخيار يجب أن يلغى تماماً، بل على العكس، فإن وجوده أساسي و بالغ في الأهمية، و ربما قد يكون هو الرادع الوحيد للنظام من ارتكاب مجازر كبيرة على غرار مجازر حماه في الثمانينيات. إلّا أن التركيز على هذا الخطاب كالخيار الوحيد لحماية المدنيين فقد أثبت عدم جدواه على الصعيدين الدولي و السوري. حيث أنّ الكثير من السوريين في المناطق الهادئة نسبياً يرى أن هذا التدخل العسكري يستخدم حماية المدنيين كذريعة له ، إلّا أنه في الحقيقة مطلب سياسي بحت لأغراض أصحابه، و سوف يؤدي في أغلب الأحوال إلى خراب البلاد. على هذا الخطاب التوجّه بشكل واضح للمواطنين السوريين، ليس فقط في المناطق الساخنة، بل و في المناطق الهادئة أيضاً، فالمطالبة بالتدخل دون إيجاد صيغة جامعة قد أضرّ و لم ينفع.
و بالمقابل، فإن الكلام عن سلمية الثورة، و رفض التدخل العسكري، و الأهداف البعيدة المدى للثورة دون معالجة الوضع الإنساني العاجل و الحرج في المناطق الساخنة هو غير منطقي و غير مرتبط بالواقع. رفض التدخل الإنساني العسكري الذي يجده البعض ملاذهم الأخير دون اقتراح بدائل فورية و فاعلة له يقع بالنسبة للكثيرين في خانة التنظير السياسي. بالنسبة للكثيرين، و ليس فقط في المناطق الساخنة، فإنّ الوضع الإنساني في المناطق الساخنة له أولوية على الأهداف بعيدة المدى للثورة. على روّاد هذا الخطاب التقدّم بشكل واضح بالخطط و السبل التي يقترحونها لحلّ الأزمة الإنسانية في هذه المناطق. قد يكون إرسال المراقبين العرب هو مثال عن أحد الأساليب المقترحة، إلّا أن استمرار الخلاف حول موضوع التدخل العسكري بين أطراف المعارضة السياسية و عدم التركيز على زيادة أعداد أو فاعلية المراقبين أدى إلى الحدّ من دورهم.
بوضع المضاربات السياسية جانباً يمكننا أن نلاحظ أن إمكانية التسوية بين وجهتي النظر المتعلقتان بالتدخل العسكري الخارجي هي موجودة، و تنبع بشكل رئيسي من إرادة جميع أطراف المعارضة الوطنية إيجاد حل عاجل للتخفيف من الوضع الإنساني السيئ في المناطق الساخنة. كان ظهور هذه الإمكانية واضحاً في الاتفاقية التي وضعت بين المجلس الوطني و هيئة التنسيق، حيث أنها ركزت على نقاط الاتفاق، و ابتعدت عن التحارب. سقوط هذا الاتفاق كان سياسياً بامتياز، و بينما تتابع أطراف المعارضة المختلفة خلافها في طريقة مساعدة السوريين، يبقى الوضع الإنساني لعدد كبير منهم في أسوأ أحواله، و يبقون هم بأمس الحاجة لتعاون سريع و حلول فورية عاجلة …
** ملاحظة هامة: وجب التنبيه إلى أنّ هذه الورقة ستعتمد على التعريفات و الأفكار الموجودة في ورقة ” أفكار عامة متعلقة بالتدخل العسكري الخارجي – إيجابيات و سلبيات” كأساس لها ·