بدور حسن
ترجمة ياسر الزيات
المقال الأصلي http://goo.gl/NDV4b
في 21 كانون الثاني، هزّ انفجار سيارة انتحارية ضخمة مدينة سَلَميّة السورية، 30 كيلومتراً جنوب حماه غرب سوريا. المجموعة السلفية الجهادية ’جبهة النصرة‘ أعلنت مسؤوليتها عن الهجوم الذي استهدف تجمعاً لشبيحة النظام في مصنع سجاد لكن تسبب أيضاً بمقتل وجرح مدنيين كثيرين، منهم أطفال. الائتلاف الوطني السوري، المظلّة القائدة للمعارضة، شجبت الهجوم لكن رفض إدانة جبهة النصرة. تفجير إرهابي آخر محاكٍ ضرب مصنعاً عسكرياً في سلمية في 6 شباط، متسبّباً بقتل عشرات المدنيين الأبرياء. انفجارات الأعمال الإرهابية في سَلَميّة أنتجت جدلاً محتدماً ومعقداً بين المعارضة السياسية السورية، كما عند مجموعات جهادية على خط المواجهة، كما ألقت ضوءاً على المشاركات المتزايدة لمجموعات كهذه على أرض سوريا، وعلى الخطر الذي يشكّلونه على الثورة، وعلى تجاهلهم المطلق للحياة المدنية.
قيادة الخطّ الأمامي
سَلّميّة، مقاطعة صغيرة سكانها أكثر بقليل من 100,000، مشهورة بتنوّعها وبنسيجها الاجتماعي، المتناغم بأصالة تفوق الشعارات المبتذلة والفارغة لـ«الوحدة الوطنية» التي تملأ الخطاب البعثي، البرّاق والرومانسي حتى الملل. سَلَميّة، معقل الإسماعيليين الأكبر في الشرق الأوسط والمكوّنة بالإضافة لهم من سنّة وشيعة اثني عشرية وعلويين، كانت بين أولى المدن السورية التي انضمّت للثورة من أجل الحرية والكرامة. المظاهرة الأولى ضدّ النظام في سَلَميّة خرجت في 25 آذار 2011، بعد أسبوع واحد من الحملة الوحشية في درعا. وباكراً في 1 نيسان 2011، بعد أسبوعين فقط من اندلاع الانتفاضة، احتلّت طائفة من متظاهرين من كافّة الطوائف شوارع سَلَميّة مرة أخرى، وهي تهتف «الشعب السوري ما بينذلّ»، تضامناً مع درعا المحاصرة.
مظاهرة مدينة السلمية5 بتاريخ1 4 2011
من يومها غدت المظاهرات الصاخبة وفنون الشوارع والاعتصامات المفاجئة وإضاءات الشموع، وغير ذلك من أشكال المقاومة العزلاء، سمة مألوفة في فضاء المدينة العامّ.
مدينة سلمية – تظاهرة نسائية – 6 – 3 – 2012 – هي صبايا سلمية
النساء والصبايا في سَلَميّة كانوا في واجهة الانتفاضة منذ بدايتها جداً: أسّسنَ لجنة تنسيق نسائية شعبية كانت وما زالت تقوم بنشاط رائع على الأرض، فكنّ مواطنات صحفيّات، ووقفن بشجاعة في الخطوط الأمامية للمظاهرات غير عابئين بعديد العناصر والانتهاكات الأمنيّة، كما كنّ، كرفاقهنّ، عُرضةً للاعتقال والمضايقة. ناشطات شابّات، كـ –لنذكر بعض الأسماء– هديل سعيد وميس الشيحاوي ورؤى جعفر، كنّ بين سلمونيات عديدات اعتقلهنّ النظام السوري خلال الانتفاضة.
مدينة السلمية | تدخّل الثائرات لآنقاذ المعتقلين من الأمن
الطلاب، أيضاً، كانوا شريحة محورية من الحراك الشعبي الثوري، عبر قيادتهم ومشاركتهم في مظاهرات داخل وخارج سَلَميّة. شباب الثورة قاموا أيضاً بمظاهرات درّاجات ومواكب حرية نحو مراكز المدينة التجارية، ومن صبغ الشوارع بالطلاء الأحمر بعد مجزرة طابور الخبز في حلفايا، إلى بخّ غرافيتي ثورية، مروراً المشاركة بإضرابات عامّة، كلها كانت أشكال تمرّد مختلفة عبّرت عنها سَلَميّة. لكن الحراك الثوري في سَلَميّة ظلّت تهمله تيارات الإعلام السائد، رغم الجهود الهائلة التي قدّمها ناشطون إعلاميون محليون، محاولين إيصال الصوت وتوثيق المظاهرات وواضعين أنفسهم تحت خطر الاعتقال أو الإصابة.
سلمية | مظاهرة على الدراجات النارية 2012.2.26
غرافيتي | ثوار مدينة سلمية في 27 – 12 – 2011
سلمية تلوين الشوارع باللون الأحمر تضامنا مع حلفايا
قمع ناعم
كمحاولة لتخفيف حدّة الحراك الاحتجاجي في سَلَميّة، مارس النظام السوري قمعاً «ناعماً» عن عمد، بديلاً عن القوة العارية، فقد اعتمد بشكل أساسي على الاعتقالات اليومية وخطف المتظاهرين والناشطين، عبر شبّيحة نُشروا لمهاجمة وإرهاب كلّ من تحدّثه نفسه بالاحتجاج. إلى ذلك، حاول النظام –بلا فائدة غالباً– إشعال توتّرات طائفية بين سنّة المدينة وإسماعيليّتها. من المرات النادرة التي استعملت فيها قوى النظام الذخيرة الحيّة ضدّ مظاهرة في سَلَميّة كانت خلال تشييع الشهيد جمال فاخوري في 30 حزيران 2012، وقد نجم عن ذلك مقتل علي قطريب وجرح آخرين.
القمع «الناعم» تكتيك غير مألوف للنظام سيء السمعة، المعروف كيف يصل لمستويات عنف غير مسبوقة في سحق المظاهرات السِلمية، مذ أطلق الرصاص الحي على صيحة حرية الأولى في الجامع العُمري في درعا، ثم طالما تصدّى للمظاهرات العزلاء بالدبّابات وقذائف الهاون. عِناد عبّاس، ضابط منشقّ وموظّف رفيع في وزارة الداخلية، أوضح كيف لم يكن خيار النظام في تجنُّب السلاح القاتل في سلَميّة محضَ صدفة. عبّاس زعم أنه بينما كان هناك أوامر لإطلاق النار على المحتجّين في حماه و«إبادتهم»، كانت ثمة تعليمات واضحة تمنع إطلاق حتى رصاصة واحدة ضد محتجّي سَلَميّة، وقد عزا عبّاس تلك الازدواجية إلى جهود النظام لتصوير كل المحتجّين كمتطرّفين، مرسّخاً صورته كحامي الأقليات الدينية. ورغم أن إجراءات النظام في سَلَميّة كانت أقلّ توحّشاً، لم تكن أقلّ رعباً، وقد نجح الاعتقال التعسّفي لمئات الناشطين ومنظّمي المظاهرات –ومعظمهم اعتُقل وعُذّب عدّة مرات– في تقليص الحركة الاحتجاجية.
أيضاً، كانت سَلَميّة تتعرّض لموجة اختطافات في الشهور الأخيرة قامت بها ميليشيات إسلامية، لكن ذلك لم يكن ليخنق الاحتجاج تماماً. المظاهرات كانت تستمرّ، وإن لم تكن بنفس التواتر والحجم اللذين كانا في أولى شهور الثورة. حتى الهجوم الإرهابي الذي هزّ سَلَميّة في 21 كانون الثاني لم يمنع جمهور الشباب هناك من مواصلة المطالبة بإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد ومواصلة الغناء للحرية.
مدينة سلمية جمعة المجتمع الدولي شريك الأسد في مجازره
مساعدة النازحين
دور سَلَميّة في الثورة السورية لم يقتصر على الاحتجاجات والتمرّد الخلّاق، فالمدينة رحّبت بدفء بآلاف النازحين الداخليين الذين فرّوا من حملات النظام المتوحّشة في حماه وفي الرستن وتلبيسة في ريف حمص. ناشطو سَلَميّة تطوّعوا أيضاً في تهريب الطعام والمساعدات والمؤونة الطبّيّة إلى المناطق المحاصرة. الناشط ملهم رستم أردته رصاصة قرب حاجز للنظام بينما كان يهرّب مساعدات طبّيّة إلى الرستن، وقد أثّر استشهاده في أهل سَلَميّة بعمق لدرجة أن تشييعه في 22 حزيران 2012 تحوّل إلى إحدى كبرى المظاهرات في المدينة على مدى الانتفاضة.
تلك هي هي سَلَميّة: مدينة القرنفل الثائر والشمع الذي لا ينطفئ، المدينة العريقة منذ قنواتها وقلاعها الرومانية، والتي دُمّرت ثلاث مرات في التاريخ ثم نهضت من عمق الركام. إنها تنهض للمرة الرابعة في وجه الطغيان والاستعباد الذي خنق سوريا منذ أربعة عقود. بؤرة المقاومة السِلمية سَلَميّة ليست مدينة أقليات، بل المدينة التي احتشدت واحدةً في شوارعها الحشود، تدعو لـ سوريا حرة وعادلة للجميع. هي مسقط رأس الشاعر والمسرحي السوري العظيم محمد الماغوط، الذي كتب عن بلدته:
«سلمية
الدمعة التي ذرفها الرومان على أول أسير فكّ قيوده بأسنانه
سلمية الطفلة التي تعثرت بطرف أوربا وهي تلهو بأقراطها الفاطمية وشعرها الذهبي
وظلت جاثية وباكية منذ ذلك الحين
دميتها في البحر وأصابعها في الصحراء
يحدّها من الشمال الرعب
ومن الجنوب الحزن
ومن الشرق الغبار
ومن الغرب الأطلال والغربات
في كل حفنة من ترابها
جناح فراشة أو قيد أسير
حرف للمتنبّي أو سوط للحجّاج
أسنان خليفة أو دمعة يتيم
لا تعرف الجوع أبداً
لأن أطفالها بعدد غيومها
ولكنها حزينة للأبد
لأن طيورها بلا مأوى»
تعليق واحد
تنبيه: الثورة المنسيّة في سَلَميّة | قصف عشوائي Random Shelling