بقلم: معتصم الديري
كنّا عشرة: أمي وصلواتها الخمس، أبي وحكة الذقن، أنا ودورتي الشهرية الأولى
وكان الجنوب، خصباً كرائحته الآن، خشناً كحافة معولٍ هرم، جنوب من شماله لجنوبه. والجنوبيون كانوا هكذا يأكلون، ويشربون حريات، بل لنسمها أشياء غريبة.
هكذا أيضاً أُزيل الغبار و تماثيل لا تحمل إلا الغبار سقطت، و ليس بحادث سير بل بحادثة سوريين، لم يطل الرقص في الساحات يومها، فقد ثقبوا جمجمة، كتف، لافتة، و خوفنا برفسة طلقة.. وارتفعت البلاد مرحلة.
وحتى أنهم حاولوا أكلنا، ولكن الفكرة تحرس ظهر صاحبها،فحمتنا الفكرة، وأكلتهم الفطرة. يوم حملني أبي على كتفه شعرت أني سأطير فأمسكت بما تبقى من شعر في رأسه، صرخت كل صوتي يومها حتى ظننت أن حبالي الصوتية استغربت أنها طويلة هكذا..! حتى جارنا المشوه من حريق قديم لم يكن إلا جميلاً ، و لو قبلني لقبلته. كل شيء كان فقط جميلاً. وحين لم أستطع رمي الرز على جنازة عابرة كان جميلاً أن أطعمها للحمام.
كنّا تعودنا كثيراً على انقطاع الكهرباء،أحببنا إشعال الشمع، ولكن في الثانية والنصف ليلاً كان فتيل الشمع يخبر بشيء لا يحبه أحد، شيء واحد إنما سيكلف كثيراً. دخلت الدبابات جنوبي، ودخلت كلّ قلبي، يمشي الصوت في شراييني و يرتفع عاليا في رئتي، خشناً، سيئاً، لست أدري فلا شيء يشبه صوت الدبابة إلا صوت الدبابة.
كنا عشرة و أصبحنا واحداً بل كومة لحم تنبض ثلاث مرات، قاطع المشهد أبي: سأصنع قهوة أشربوها ولن يصيبكم أي شيء سيء، أنزلوا الدبابات للشارع كي تقطع أوصال المدينة لا أكثر و لا أقل. أقنعني جداً، و بدأت أهدأ حين ذهب ليحضر القهوة، حاولت الوقوف لألحق به، فسقطت كل كلماته و كل ما أقنعني به، جاء الأزيز.. و عدنا واحداً بل كومة لحم تنبض ألف مرة.
أمي وصلاتها، أنا ووجع البلوغ، أبي ويدين تحضننا كأنهما بيت. و بيتنا في منتصف بناية من خمس طوابق، لكننا نبدو كأننا قابعون في كهف، بدأنا نبتعد كما قال أبي عن النوافذ، ليس لأن كل نوافذ الجنوب تحوي داخلها أناس مخلعي القلوب، بل لأن الرصاص كان يدخل حتى إلى المسام…
صراخ، مركبات، أزيز، و نحن.
و أنا بدأت أصير خائفةً بل أكثر، صرت مثل الطرق التي بدأت المركبات تشوهها، مثل الجدران التي شوهتها بنادق أناس لم يشاركوا حتى في طلائها، وأمي على حالها تقول أشياء لا أفهمها، حتى أنها بدأت تهذي بإمكانية أن نصبح مجرد ذكرى، و كلما أردت إيقاف هوسها ذكّرتها بالدعاء لردع دبابةٍ على الأقل. وأبي ما زال أباً لكل الأشياء في البيت، صامتاً كمنحوتة، وحين انتبه لصمته ابتسم لي : نشرب قهوة على صوت الدبابة ؟
أحببت نبرته و بدون أي تفكير بتلك الأطنان من الحديد خارج البيت أحببت قهوته، ضمّ أمي و عضّ على أسنانه بحب: أدعي لنا أن يكون الراديو ليس معطلاً. غادر على ركبتيه زحفاً إلى المطبخ، كان ثمة ركضٌ يبدو من خفة الركض أنه لشاب في الشارع، والأزيز يشتد ليصبح داخل فنجان القهوة بعد قليل، و توقف الركض سقوطاً نحو الأرض، وتوقفت أمي عن الدعاء، وأنا ربما توقفت عن البلوغ أيضا، وأبي الذي لا يهدأ عن الحركة توقف هو أيضاً عن تحريك ملعقة الحديد في ركوة القهوة النحاسية، لينصت إلى صوت تهشم ركبتين، وأكل صوت الحريات، وقتل مشي البلاد إلى صباح جديد.
انتهى الهال إلى كل أنحاء الغرفة، وأنا مازلت متكأةً على قدمي أمي المرتجفتين
شربنا القهوة على خلسة من أزيز، والهلع من أطنان الحديد خارج النافذة…
ولاشي محدد يحدث الآن، لا هاتف يخبرك باسم الشهيد الذي ربما سقط على وجهه أو ربما على ظهره في الشارع، ولا أخبار عن أقارب تشتهي منهم بحة صوت : مازلنا مثلكم.
و جارنا على حاله مذ هلع إلينا كخبر موت: أدخلوا الدبابات ليقصفوا صوتنا و ثمة حديث أنهم سوف يقصفوا حتى ما نفكر فيه، و كل هذا لأننا مللناهم و مللنا بلاداً صدئت فيها حتى الجبهات. نعم لا نحبهم و لماذا نحبهم..! ألا يحق لنا أن نحب ونشتهي ما يريح أنفسنا..؟ ألا يحق لنا أن نصرخ (الشعب يريد)..؟ أم أننا لسنا شعوب.. أو أنَّ فعل المضارع هذا لكائناتٍ غيرنا..؟ قالها دفعة واحدة و بعدها هلعنا أنا و أمي إلى أبي الباسم في ضوء الشمعة، فضمّنا كأننا جرزة بقدونس ألتف عليها خيطها.
غادر جارنا ثم عاد مسرعاً: لا تخرج من المنزل، لقد اقتربوا من الحي، و فرضوا حظر تجول، حتى أنهم يطلقون النار على القطط..! ومن توفي تحت البناية كان يحاول أن يصورهم فقط . هو خالد صاحب محمصة القهوة، فأكملوا قهوتكم و أشكروه قليلا. ثم انصرف و كنّا بحاجة لأي جملة فعليةٍ كانت أم اسمية المهم أن تأخذ القلب من رائحة الخوف التي دخلت، ورغم وجع البلوغ جاء كلامه الذي ينقذ دائماً، رشف أبي رشفة: خالد كان سخياً و علينا أن نأخذ هذه الصفة كاملة عنه . التفت واختلس نظرةً من ضجيج الأزيز خارج النافذة: هذه المرة ستكون قاسية هم أنزلوا المدرعات، ويبدوا أنهم قد جنوا، يطلقون النار حتى على الغيم و سوف يطول الأمر و علينا أن نهدأ و نعيش ما استطعنا، سنكون طيبين القلوب مع أنفسنا، سأحبكم و أحميكم كثيرا، و خاصة إذا شربتم القهوة لن يصيبكم أي شيء سيء.
لم تكن الأمور سهلة هكذا، كنا نرجف و نحس بأننا نُسرق، نعم سرقنا بعد أن صرخنا في الطرقات كالريح الصبيّة، وعرفنا أننا لسنا أعداداً فقط، كنّا أناساً حقيقين، نحيا من دون تمثال وصور موزعة كالضجيج في الطرقات جاؤوا ليحتلوا حبالنا الصوتية الجديدة و الحب الجماعي و مفردات و أفكار لم يوزعوها في المدارس، بل دأبوا على دفنها علنا … علناً … علنأً. و نحن الآن نصرخ فيها علناً علناً علناً.
وأكثف الأشياء بشاعة؛ أنهم يغتصبون بعض سنتيمترات من الحرية. لم نراها كلها حتى جاؤوا ليأكلوها من عيوننا. فأن تصرخ (أريد) يعني أنكَ تزعج طبلة أذن الحاكم. رشفت أمي قهوتها: لم ألد سوى ابنة بخمسة عشر عاماً، ورغم صلواتي الخمسة أحببت رجلاً شيوعياً انتظرته حين سُجن خمسة عشر عاماً، فليدخلوا إذن، فالشمعة التي أنرتها في اعتصام البارحة كانت أكثر حياةً من ربيع كامل في حديقة واسعة، و أنا الآن فرحةٌ بأنّي صوت قد بُحَ من هتافات أدعوا لها و أومن بها كما أومن بالله.
قالتها مقاطعة كل أزيز الدبابات، ضحكنا واثقين فرحين و حتى هي أيضاً ضحكت، وضمها أبي كأنه يضم أحداً لم يره منذ خمسة عشر عاما، وصرخ كمجنون بصوتٍ لم يخفي الأزيز إنما لم أعد أسمعه: لم يقتلوا فينا سوى أيام سيئة السمعة، ولدت لا أعرفك، وعشت خمسة عشر عاما في مترين أحبك، وسأموت أضمّك.
ثم فتح النافذة و صرخَ كالفتيان: يا زبالة… يا مخالفات… حرية… حرية… حرية… ثم تتالت الصرخات من نوافذ الحي متنوعة، مرةً شتائم، مرة حرية، و مرة هذه حوران و ليست الجولان. ثم قفزت أمي إلى النافذة كفتاةٍ أيضاً: أذهبوا إلى الجولان التي بعتوها، وأما أنا لم استطع المشاهدة فقط، نهضت و رغم ازدياد وجع معدتي، صرخت بأشياء غير مرتبة، إنما بدت لي أكثر جمالية من دستور هذه البلاد، وبعدها تتالى الرصاص على النوافذ، ارتمينا أرضاَ. نعم كنا نضحك كأطفالٍ يسترقون النظر إلى والديّهم أثناء قبلة.
لم يثقب الرصاص ظلالنا الثلاثة على الجدار و لا حتى مشهدنا الجنوني، فقط خسرنا بلور النافذة و الستائر التي كنا نود تبديلها أصلاً، ولكن بدا في البناية المقابلة لنا ضجيج دمٍ في إحدى الطوابق و كأن أحد أصيب، والحي أيضاً بدء يُقتحم، وأصوات أقدام بدأت تركض كآلات الخياطة و أصوات أوامر: أنتم من هنا … أنتم من هنا … أنتم تعالوا معي، حينها وضع أبي يده على مؤخرته : كلكم هنا، فضحكنا علناً.
اطمأن أبي من سلامة فنجان القهوة رشف بعجلٍ قليل: هذه المرة لن يقرعوا الباب، وقد يكسرون أثاث البيت، أو حتى يكسروننا. أما نحن فعلينا أن نهدأ كي نستمر، فثمة أشياء جميلة سوف تحدث و علينا أن نراها، و أنا شخصياً سأعد العشاء بعد خروجهم. مشى ثم التفت و بابتسامة خبيثة إلى أمي : و أنتِ خصوصاً لم أراكِ جيداً منذ أيام…
وضعت أمي يدها على فمها و أشارت لوجودي، فأخبرها: اتركيها ها هي الآن تصبح امرأة و عليها أن تكبر علناً، أن تشاهد و ترى كل ما يستحق ذلك، فهي الآن امرأة، حرة. لكنه بدا خائفاً فقد بدأ صوت الركض على درجنا، آه درجنا كم أحببت صعودك، و برودك في الصيف، و لكن ليصعدوا، فعليك أن تحتمل مثلنا خطوات الحر، و ركض السجان.
أصوات تخليع الأبواب، البكاء في السرِّ منهم، ركضهم المرتبك، وأن نخبأ أفكارنا تحت اللسان، كله سيصبح ذكرى جميلة، وربما وسام حرية، فلا تتركوا الموت يدخل حتى إلى أطراف ثيابكم: قالها أبي و نحن نمشي زحفاً ليوصلني إلى الحمام فقد بدأت أحس أنّ شيئاً يمشي في جسدي، خرجت فوجدته ينتظرني باستفهام، فأخبرته: لا، لم تأتي بعد هذه التي اسمها الدورة، و خجلت، ثم زحفنا رجوعاً مبتسمين لأمي.
أنهوا التخليع، تكسير أرواح البيوت، وربما تكسير عظام أصحابها، سمعنا جارنا يخبرهم: لا هنا تقطن عائل،, وكان يجب أن يردف و هم الآن عائلة خائفة
الآن … الآن يخلع بابنا الخشبي إلى أخر روحي. أصبحت أحس أنه بإمكاني أن أقول لأبي: نعم… جاءت الدورة الشهرية للمرة الأولى.
أوطنٌ هذا أصبح فيه امرأةٌ برفسة باب..؟! مسكت بجيبة قميص أبي، ولأن المشهد بعد البكاء لم أبكي. خطوات لا تعرف أن تمشي تجول بيتنا كالجمال في الهيجان، يأكلون روح بيتي بالأحذية العسكرية، كم سيجعلني هذا أصرخ في المظاهرة القادمة، عشر أحذيةٍ و قدمان دخلتا الحمام من دون إذن، يستندون على جدران بناها أبي، وطلاها مرة هدية حبٍ لأمي، و تبكي الآن أمي، وأنا لا أسمع الكلام الذي يتكلمون، إنما أعرف أنهم يكرهوننا أكثر بمرات من أعداد أحذيتهم، و بذات الجيب التي أمسكت أبي منها، أخرج الهوية التي سألونه عنها، متأكدةٌ أنا أنهم لم يشعروا مرة بها، انتشروا في البيت ركضاً غبياً، و بنادق لا أدري ربما قتلت شخصاً ساعدني في صعود الباص، أو ربما ساعد أحدهم .
تجول الضابط الذي يبدو أعلى رتبةً و أكثر حرفةً في القتلن و أبي وقف فقط ساخراً، حتى شعرته سيقلد مشيته الغبية، وأمي تمسك بيدي اليسرى تنتظر ماذا يسرقون من المطبخ…
تجول قليلاً، أعجبه راديو أبي القديم، فأنزله من رفه، ثم أعاده لمكان أخر، نظر للرف المجاور وأنزل بعض زجاجات النبيذ، بينما كان أخر في المطبخ يأكل موزة، آخر يسرق ربطة عنق لأب، اثنان لا أراهما، وآخر أمام بابنا المخلوع. ألتفت الضابط حاملاً الزجاجات و باستخفاف: ما الحرية التي تريدونها.. ونحن ندعكم تشربون..؟
فأجابه أبي: أنا لا أريد حرية، وصمت شعرته سيردف: أنا أصرخ بالحرية، وأريدها كاملة كما كانت ناقصةً. خرج الذي أكلَ الموزة محمَّلاً بكيسين: سيدي لم نجد شيئاً. فأجابه الضابط: نعم، نعم، وأردف لنا كلاماً فارغاً غير مرتب، ولا أدري لماذا قال نعم، ولماذا تكلم، ولكن الجميل أنهم بدؤوا ينسحبوا، وأنا الذي يحق له أن يقول نعم، خلعوا و سرقوا بيتنا على صوت الأزيز، ومرأى منّا، ولكنهم لم يكسروا مقدار نسمة بداخلنا، ولا حتى أصوات سحب الأشخاص في الطرقات وكأنهم قطيع رخيص، كسرتنا أكثر من دمعتين وعطشٍ غريب. مشيت وخشب بابنا كان يبدو معتذراً حين أغلقته بخزانة الأحذية القصيرة، وأمي تبدو كأنها تصهل في المطبخ من الفوضى التي ألحقوها، وأبي واقفاً يعيد ترتيب الرفوف. فتح زجاجة نبيذ ووجهه للحائط، شرب دفعتين ودفعها بلطف إلى الرف، ورغم أنّ كل شيء خارج النافذة كان ما يزال على حاله، التفت إلي، نظرت في عينيه فقط في عينيه، لم يبتسم و لكنه قال و قد رفع يديه و أنزلهما: لم نخسر و لم نربح، لكننا اجتزنا المرحلة. اقترب من عيني: تعالي واحفظي المشهد لكن لا تفكري فيه كثيراً، هؤلاء ضحايا لا يستحقون الشفقة، و أما نحن الثائرين فعلينا أن ندفع، وها نحن ندفع. ثم ضمني وللمرة الأولى منذ مظاهرة البارحة ضممته أنا أيضاً.
جلسنا في ذات المكان الذي شربنا فيه القهوة، وجاءت أمي زحفاً و ضحكنا عليها كانت تبدو كالدب القطبي تماماً، وتماماً أيضاً عاد المشهد ذاته مع تعديل في الأدوار، أمي و صلاة الصبح التي تأخرت عنها، أبي ناقصاً خمس زجاجات نبيذ، أنا ويومي الأول كامرأة.
أشعل الراديو وسيجارة، الشمس كانت قد بدأت ترسل خيوطها إلى جنوبٍ يريد أن يرى وجه قاتله، وكانت الشمس تدخل من ثقوب للرصاص في الستائر كأعواد الكبريت، وفيروز أيضاً جاءت من ثقوب الردايو كنسمة لعاشقين، وصوتها يأتي برائحة الحرية إلى أبواب أنفي… شممتها، ضممته، ونمت.