فادي شماس
كنت في الصف العاشر عندما فقدت هويّتي …. الشخصية
قبل الحصول على هويّة جديدة كان علي ان أعبر المتاهة المعتادة من المعاملات اللي تبدأ ثم لا تنتهي .. الجديد في تلك المتاهة كان مراجعة الامن السياسي و الامن العسكري و أمن الدولة..
في المدرسة اصبحت محط اهتمام الاصدقاء , كلاً تبرّع بقصته غير المسلية عن الاهوال التي تحدث في اي امن من الاوامن المذكورة (ارجو ان لا يحملّني جمع التكسير المُبتدع هنا غير التبعة اللغوية لكسر قواعد النحو المقدسة)
سمعت قصصا عن الداخل المفقود والخارج المولود , عن الدبّان الازرق “..الذي يفقد كل اثر للبشر التي تختفي في الفروع الامنية, عن المحقق “يللي ما بيعرف أبوه”.. اما انا فكنت أعيد نفس الجملة بطريقة من يطلب الرحمة “يا شباب.. كل القصة هوية ضايعة”.. أخيراً و ربما لتعزيتي استقر الرأي على الصفعة.. “هذه لا بد منها”.. “يعني متل المرحبا”.. لكن رغبة الرفاق الصادقة بالتخفيف عنّي لم تكفي لمقاومة إغراء وصف (الكف في فرع الامن) الذي “يرقع رقع” و وصف علاقته المباشرة “بنجوم الظهر” و “بنسيان الحليب اللي رضعته”, انا لم اعتقد ان احداً يذكر اساسا الحليب الذي رضعه, لكني لم اجرؤ على الاعتراض خوفا من ان يغيّر الاصدقاء رأيهم و كنت سعيدا انهم استقرو على الصفعة.. فقط
خفّت قليلا النظرة المريبة لتي اعتلت وجه الموجّه بعد ان أعدت جملتي “كل القصة هوية ضايعة”, أخذت اذناً و انصرفت..
لا أذكر أنّي شعرت (برياح الحرية) التي تلفح عادةً وجه اي طالب في الصف العاشر ما ان يخرج من باب المدر سة أثناء الدوام الرسمي و بإذن من الموجه.
في الامن العسكري و في أمن الدولة و بعد انتظار ليس طويلا حصلت من كوّة قرب الباب الخارجي على “لا مانع من اصدار هوية جديدة”.. في الامن السياسي طلبوا مني الدخول..
قادني احدهم الى غرفة صغيرة و جعلني انتظر.. مر الوقت بطيئاً, عادت الصفعة (المرحبا) الى تفكيري, ربما بسبب الحجم الكبير ليد الرجل الذي قادني الى الغرفة.. رتبت وجنتي و انتظرت..
لم يحاول عقلي ابدا ان يبحث عن المعنى اللغوي الناتج عن جمع الامن مع السياسي, كان يكفي الوقع المرعب للتعبير “الامن السياسي” دون محاولة النفوذ الى مفاصله.. كنت من جيل نشأ مع هذا الرعب, تماماً مثل أجيال سبقت و أجيال ستأتي لاحقا الى أن يرى الله أمراً, او الى أن يحدث النفوذ غير المتوقّع لديكارت من كتبنا المدرسية الى عقولنا المحجبة ابداً بالخوف من الله.. أو من الأمن السياسي..
عندما يتسرب الملل يصير للثواني وقعاً قابلا للعد, لكن عندا يتسرب الخوف تصبح الثواني خفقاناً و تصبح افكارنا ذباباً مجنوناً يرقص تحت فانوس يرتجف..
كانت الثواني تدفش الوقت دفشاً لترسم بعد دهر ساعة واحدة (لا بد ان سلفادور دالي قد فقد هويته و راجع الامن السياسي قبل ان يرسم ساعاته)
مع مرور الوقت كانت تعود الى ذهني القصة التي رواها احد الرفاق في المدرسة عن أن أحدهم ادعى أنه فقد هويته ليظهر بعد فترة أنه باعها لجاسوس اسرائيلي .. لماذا لم يعطوني الموافقة سريعاً كما فعلوا في باقي الفروع, لماذا طلبوا مني الدخول, ولماذا هذا الانتظار.. بت مقتنعاً أن جاسوس ما قد عثر على هويتي أو ربما سرقها, لا بد أنه كان يراقبني, رحت استعرض كل الوجوه المريبة التي صادفتها في ال 14 سنة الاخيرة و هي انذاك سنين عمري كله.
صارت الثواني عقارب ثم صارت مطارق ثم ماتت في هلام ثقيل يملأ شغاف القلب و يجثم عليه.. لا عزاء لي هنا, حتى العناية الالهية لن تدخل دون موافقة ولن تخرج دون صفعة..
فجأة سمعت اسمي, كان أحدهم (بيد كبيرة أيضاً) يقف بالباب, اشار إلي فتبعته بنفس الارادة التي يتبع بها الخيال صاحبه..
في غرفة واسعة جلس أحدهم على كرسي امام صوبية مازوت وضع عليها رغيف أو رغيفين من الخبز بينما دعاني الاخر الواقف الى الجلوس ثم بدأ بالاسئلة كان يمشي بالغرفة جيئة و ذهاباً و يقضم الخبز المقمّر و كنت أنا أجيب على الاسئلة و اراقب يديه و انتظر الصفعة. كنت اصاب بالتشنج في كل مرة يقترب مني.. يجب ان أكون حذراً لأمنع يدي من التحرك (بافلوفياً) للدفاع عن وجهي, اذ لم يكن بامكاني تحمّل تهمة اخرى من قبيل “إعاقة رجل أمن شريف أثناء تأديته لواجبه في صفع مواطن خ.. فقد هويته الشخصية” بالاضافة لتهمتي الاصلية ببيع هويتي لجاسوس اسرائيلي (كما كنت اخشى).. ثم أنا أعلم من التجربة في المدرسة (و اللتي تصبح تجربة غنيّة في فن تلقّي الصفع قبل ان نتجاوز المرحلة الابتدائية) أنك لو حاولت منع المعلم من صفعك فإنه سيصفعك أكثر, و من يدري فقد يبدأ بالّلبط كما حدث لاحد الاصدقاء في السنة الماضية.. (اذ كثيراً ما يسقط عندنا الفرق بين رجل الامن و المعلم)..
رويت له كيف فقدت هويتي بصوت بالكاد يعلو على صوت قضم الخبز, كان في منتصف اقترابه مني عندما توقف قليلا ليسأل الشخص الجالس:
“بتفوت هالقصة بالعقل؟”
“لا والله ما بتفوت” اجاب الجالس و الذي كان على ما يبدو أقل رتبة
تابع الاخر اقترابه مني.. عصرت على اصابعي المتشابكة و صرت حطبة واحدة ترتدي الزي المدرسي لطالب في الصف العاشر.. لم يصفعني و تابع الاسئلة..
لا بد أن تلقي الصفعة اسهل الف مرة من هذا التوقع الدائم لها.. كنت أنا الجالس بين الصفعة (القادمة لا محالة) و بين وقوعها كنت كمن يختصر (بشكل كاريكاتوري لكنه واضح) الحياة كلها لأي شخص تجرؤ امرأة على ولادته جنوب خط العرض +45 (اترك لكم ان تحزروا الاستثناءات)..
سألني عن عائلتي, المهاجرين منهم والمقيمين و عن اصدقائي, سألني إن كنت عضو في تجمّع شبابي تابع للكنيسة, ثم سألني إن كان عندي علاقة مع فتاة و كنت في الحقيقة على وشك أن أفضح له قصة قبلتي اليتيمة علّه يجدها مسلية فتكسر قليلا من رهبة التحقيق لكنه (لحسن الحظ) لم يعطني الفرصة فقد انقض علي بالسؤال :
_هل أنت شيوعي أم سوري قومي؟
_أنا لست هذا و لا ذاك
_توقف عن الكذب فانت من مشتى الحلو و لا بد أن تكون “يا هيك يا هيك” ثم نحن عندنا تقرير من المدرسة يقول أنك شيوعي و اخر يقول أنك سوري قومي
هنا خرجت الكلمات من فمي (أقسم أني لم أقلها لكنها خرجت).. “ألا يوجد عندكم تقرير ثالث يقول أنني اخوان مسلمين” ساد صمت رهيب لثانية.. بدأ الواقف بالضحك تبعه الجالس (لا بد أن الضحك هنا يتبع تسلسل الرتب), أصبح الضحك قهقهة عالية, أنا سمحت لنفسي بابتسامة خفيفة, فجأة قال الواقف و هو يضحك “انقلع من هون, بتاخد الموافقة من الباب الخارجي”.. بعد دقيقة كنت في الخارج و صك الغفران بيدي..
تفصل بين الامن السياسي و البحر في طرطوس خطوات, لا أذكر أني قطعتها لكني وجدت نفسي فجأة أمام البحر, كان الظهورالمفاجئ للبحر امامي يشبه التجّلي, كان جميلا و كنت انظر إليه كأني أراه لأول مرة.. ملأت رئتاي بالهواء و سرحت في زرقته اللتي لا تنتهي..في البدء كانت الكلمة تطفو فوق وجه الغمر .. كنت متعباً حتى السيلان و مهاناً من صفعة لم تقع.. هنا سفر التكوين يختلف.. في البدء كانت الصفعة.. نحن نولد من تراب تم صفعه, من ضلع أُخذ عنوة, و من أم مغتصبة.. إلهنا خلقنا في عجالة, ثم خلق الامن السياسي والدبّان الأزرق, ثم استقال.. كنت مدفوعاً الى البحر بشهوة الرحم, وكانت أمواجه الصغيرة تداعب قدماي عندما بدأت أسيل, صرت ماءً مالحاً, سبحت بعيداً كدلفين, سابقت زوارق الصيادين, عثرت في القاع على كنز قرصان قديم, سقطت زبداً على شاطئ بعيد, ثم طرت نورساً فوق مدينة صغيرة بيوتها بيضاء و سماءها مفتوحة للنوارس, و للباحثين عن الهوية.. المفقودة..