اقتحمت خيالي صورة العجوز أبو وائل، فذهب الوسن وعجزت عن النوم
كنت دوماً أعتقد أن أقسى ما يمكن أن يحصل لأي والدين.. هو فقدانهما الولد الصغير دون معرفة مكانه، والحيرة التي لا تموت ، إلا بموتهما.. فيما إن كان حياً أم لا؟!
ويتخيلانه خائفاً،جائعاً وباكياً، يتلفت حوله فلا يجد وجهاً مألوفاً يحضنه ويمسح دمعه، يهدئ من روعه، ويطبطب على ظهره حتى ينام.
لكنني اكتشفت أن هناك ما يضاهي هذه الحالة قسوة، إن لم يكن أسوأ.
كان ذلك عندما سمعت حكاية أبو وائل،بل أقول مأساته!!
حضر إلى مكتبي مساءً بينما كنت أهم بمغادرة المكتب، عجوز في الخامسة والسبعين، ذو قامة فارعة، أبيض البشرة أزرق العينين، لم تستطع المسارب التي حفرها الزمن على وجهه، أن تخفي وسامة جلية، باختصار له وجه يريح الناظر إليه، دون أن يغفل للحظة واحدة، أن الحزن اتخذ من عينيه ميناء ترسو فيه سفن محملة بالمرارة والأسى.
بدأ كلامه بالقول:
رزقني الله ثلاثة أولاد وهم (وائل وخالد وعلي) “وائل” سافر للعمل في بلد عربي وهناك قضى نحبه في حادث سير، الولد الثاني “خالد” استشهد في حرب تشرين، أما الثالث “علي” فقد اعتقل لأسباب أمنية، وبعد ذلك بسنوات مرض ومات في السجن.
وسط ذهولي من صبر هذا الرجل على المصائب تابع قائلاً:
وكما تعرف أستاذي فإن الدولة كرمت الشهداء و عوائلهم بعدة قوانين ومنها منح أسرة الشهيد منزلاً مجانياً، ومنذ أشهر تبلغت من الجهات المعنية أن دور عائلتي قد حان لاستلام المسكن المخصص لنا. وقد طلبوا مني إحضار الأوراق الثبوتية اللازمة ومنها شهادات وفاة لأولادي الثلاثة. وعندما راجعت السجل المدني فوجئت بأنهم لا يستطيعون إعطائي شهادة وفاة للمرحوم “علي” لأنه ليس لديهم ما يثبت ذلك، وعندما شرحت الأمر لأمين السجل المدني أشار علي بضرورة مراجعة المشفى الذي استلمت منه الجثمان، وعندما راجعت المشفى اعتذروا عن إجابة الطلب بحجة إنهم يتلفون السجلات بشكل دوري كل خمس سنوات. فأسقط في يدي لذا جئت إليك كي تجد لي حلاً قانونياً.
(الواقع أنني (كرجل قانون) لطالما شغلني موضوع التوقيف الاحتياطي وهو قرار يتخذه قاضي التحقيق يقضي بتوقيف شخص أو أكثر ، وذلك ريثما ينتهي التحقيق في القضية. وكان رأيي دائماً، ضرورة الحد منه قدر الإمكان، والأهم وضع حد زمني أقصى للتوقيف الاحتياطي، كونه تدبير وقائي لا يجوز بأي حال من الأحوال أن يحوله قاضي التحقيق إلى عقوبة ينفذها الموقوف قبل صدور حكم نهائي من المحكمة المختصة، بل حتى قبل بدء المحاكمة!! وبخاصة أن كثيرين يخرجون بنتيجة المحاكمة أبرياء. فكيف بالحري حجز حرية الأشخاص دون إذن القضاء بل دون علمه!!.
قطعت تأملاتي نحنحة أبو وائل الذي تابع قائلاً وكأنه يحدث نفسه:
تحاول أن تفهم وتتفهم ما يحدث، فلا تستطيع، بخاصة عندما تعلم، أن الجهة الأمنية التي تحتجز ولدك لم توجه له اتهاماً رسمياً، وأن مدة بقائه في السجن غير محدودة، ولا يبارحك السؤال.. ترى هل يقيض لك أن ترى ولدك قبل رحيلك عن هذه الدنيا؟! هل ينقضي اشتياق الروح الحزينة؟! وهل يبتل القلب الجاف بقطرات من ماء اللقاء.
سألته بحذر:
ـ حدثني عن ظروف وفاة المرحوم علي
تنهد أبو وائل ونظر إلي وجهي مباشرة وقال:
ـ منذ سبع سنوات مضت جاءني شرطي يبلغني بوفاة ولدي السجين بسبب المرض وأن علي الحضور إلى العاصمة لاستلام جثة ولدي من إحدى المشافي.
بعد قليل تابع قائلاً:
غادرت بلدتي في ساعات الصباح الأولى وبصحبتي سيارة نقل صغيرة لإحضار الجثمان، ووصلت إلى العاصمة في الصباح الباكر، أخذنا طريقنا باتجاه المشفى المعني وهناك وبعد انتهاء الإجراءات الروتينية وبعد أن كنا على وشك الخروج بالجثمان جاء أحد موظفي المشفى يطالب بالبطانية التي تلف جسد المرحوم وعندما استهجنت الطلب قال ببرود:
ـ البطانية ملك المشفى.. أي أنها ملك عام، ولا يجوز التفريط بالملك العام!!!!!
صرخت به:
ـ وولدي هذا المسجى أمامك.. ألم يكن ملكاً عاماً؟! كان ابن هذا الوطن وكان كشقيقه الشهيد، مستعداً لبذل روحه في سبيل ترابه.. فلم فرطم به!!
الموظف وقف مذهولاًً غير فاهم..
بعد ذلك عرضت عليه أن أقوم بدفع ثمن البطانية.. فكان الجواب نفسه..
ـ ممنوع.. البطانية ملك عام.
لم أرغب الدخول معه في جدال عقيم لا فائدة منه .. فقد كان موظفاً صغيراً ينفذ الأوامر.
لذا تركته وخرجت من المشفى وذهبت إلى السوق واشتريت كفناً للمرحوم مع بطانيتين وعدت في نفس الليلة إلى بلدتي.
أضاف مبتسماً كنسخة ذكرية ولكن حية عن (الموناليزا):
ـ الصعوبة التي كانت تنتظرني هي أم الأولاد.. وما سيكون لهذا الخبر من تأثير على صحتها وهل ستكون قادرة على تحمل مصيبة أخرى؟! إذ أنني وحتى تلك اللحظة لم أكن قد أخبرتها بما حصل.. وإن كانت قد استغربت من سفري إلى العاصمة.. فقلت لها:
ـ الولد مريض .. سأحاول رؤيته عن طريق أحدهم.. وقد أنجح في ذلك..
حينها أشاح أبو وائل بنظره عني وحوله إلى سقف الغرفة التي كنا نجلس فيها.. لكنني استطعت أن ألمح في عينيه دمعتين بدتا ككرتين من زجاج ترفضان المغادرة.
ثم أضاف:
ـ وهل تظن أن هناك شيئاً في الحياة أقسى من أن يقوم شخص بدفن ولده وتقبل التعازي به؟ كلنا نأمل بيوم يقوم فيه أولادنا بالوقوف قرب قبورنا لتقبل العزاء، ذاك هو منطق الأمور.. وتلك هي سنة الحياة.. لكن عندما تنقلب الأدوار، وتقف لتأخذ العزاء بفلذة كبدك.. أمر يحمل في طياته تناقضاً صارخاً من الصعب احتماله إلا بالقدرة على تقبل مشيئة القدر.. كان هذا الإحساس الذي انتابني عندما فقدت ابني الكبير في حادث السير.. واختلف الأمر نسبياً عندما بلغني نبأ استشهاد ولدي الثاني في حرب تشرين 1973، فقد كانت المشاعر مختلطة فمن جهة هناك الحزن لفقد الولد، ومن جهة ثانية هناك إحساس بالعز والفخر ينتابك وأنت تدرك أن ابنك مات أشرف ميتة.. قضى في سبيل وطنه.. ولقي ما يستحق من تكريم في الأرض .. وهناك جنات عدن بانتظاره في السماء.. لذا يهون عليك الأمر.
تابع أبو وائل حديثه بصوت أخفض كأنما كان يحدث نفسه:
أما في حالة الوفاة الأخيرة هذه، فالألم يتضاعف وتشب النار في أحشائك، ولا شيء يطفئ لظاها والمذهل في الأمر أن خيالك يعمل ضدك أيضاً ويزيد من الحرقة والمرارة، إذ أنك حين تذكر ولدك الميت، لا تذكره كبيراً بقدر ما يحضر في ذهنك صغيراً، و تطغى على خيالك صور للأمور التي حصلت له ولك للمرة الأولى، كما حين حملته بين يديك رضيعاً، أو حينما بدأ بالمناغاة وسمعت صوته يزقزق كفرخ طير الحسون، وسعادته بالحبو على يديه، أوحينما تمكن من الوقوف على قدميه، ولا تبارحك صورته عندما كان يتغلب على خوفه و يبدأ بالمشي بلا مساعدة من أحد، وتكاد تسمع ضحكاته الفرحة وهو يكاد يركض ناظراً إليك بفخر، سعيداً بما أنجزه.
صمت أبو وائل .. كان واضحاً لي أنه كان في صراع .. صراع الرجل الشرقي مع فكرة حمقاء مؤداها أن البكاء يليق بالنساء لا بالرجال، وما بدا في عينيه ككرتين ثلجيتين صغيرتين بداية، تحول دمعتين تترقرقان وتفصحان، حاول إبقاءهما مقيدتين، لكنهما تحررتا وتدحرجتا على خده النضير، بعد أن تحررتا من عبودية العين و حبال المشاعر.
صمت بدوري.. كنت في حضرة الموت، وحضرة الرجولة، وحضرة الأبوة.. والأهم من هذا كله… حضرة المظلوم.
فكيف لا أصمت