يحار المرء حين يحاول فهم أحجيات وتعاويذ الائتلاف الوطني للمعارضة السورية، فهذا الكيان الهجين يصر على التواجد في “قاهرة المعز” في حين لا تعترف مصر الرئيس “مرسي” بالائتلاف أصلاً كممثل شرعي ووحيد للشعب السوري.
اﻷكيد أن ٳقامة أساطين المعارضة السورية في القاهرة يحل لهم عدة مشاكل ولكنه لا يقدم شيئاً يذكر للثورة السورية. صحيح أن مصر تسمح للسوريين بدخولها واﻹقامة فيها وأن اللهجة المصرية عزيزة على كل يتامى الناصرية البائدة لكن، وباستثناء الرخص النسبي لتكاليف الحياة في مصر، لا نستطيع ٳعطاء أي مبرر مقنع لبقاء هذا الائتلاف في حضن مصر اﻹخوانية.
وجود الجامعة العربية في القاهرة هو عذر أسوأ من ذنب، فهذه المؤسسة ولدت ميتة ولاتزال تثبت خواءها وعقمها كل يوم. الجامعة العربية تبدو أشبه بمأوى عجزة يضم مخضرمي الخارجية المصرية وبعض المحظوظين من عجائز العرب. هؤلاء يعيشون “تقاعداً” مريحا في الجامعة ويتقاضون رواتب عالية دون فعل أي شيء غير الجعجعة من وقت لآخر ﻹثبات أنهم لازالوا أحياء يرزقون.
الرئيس الآتي من رحم “الثورة اﻹخوانية” على الثورة المصرية لم يكلف خاطره بالاعتراف بالائتلاف المقيم في القاهرة كممثل شرعي وحيد للشعب السوري، ولم يجد من الضروري التعامل مع رئيس هذا الائتلاف من موقع الندية كما فعل “فرانسوا هولاند” مثلاً. لماذا يكلف الرئيس اﻹخواني خاطره في حين يتمسح الائتلاف بأعتاب مصر المحروسة التي لم تقدم أي دعم للثورة السورية ولا حتى “خرطوشة” في حين يستمر اﻷسد بقصف السوريين بصواريخ “صنعت في مصر” ؟
مصر “الثورة” تمارس ذات السياسة الانتهازية التي مارستها مصر “ما قبل الثورة”، دور “كبير العائلة” الذي يريد أن تكون له الكلمة الفصل وأن يؤدي له الجميع فروض الطاعة دون أن يقدم شيئاً في المقابل.
في ذات الوقت الذي يستجدي فيه الائتلاف موطئ قدم في مصر، اعترفت كل من تركيا واﻷردن بالائتلاف ممثلاً شرعيا ووحيداً للشعب السوري، يبقى أن يتصرف الائتلاف فعلاً كممثل للسوريين وثورتهم وأن يبدأ بالنظر إلى نفسه ودوره ببعض الجدية أو أن يرحل ويفسح المجال لغيره كي يقوم بالواجب.
الاعتراف يعني “حرق المراكب” مع نظام العصابة الطائفي في دمشق ويعني أن الائتلاف قادر على الالتزام قانونيا أمام من يعترف به رسميا كممثل شرعي للسوريين. الائتلاف قادر نظرياً على الاستدانة باسم النظام السوري المقبل و قادرعلى توقيع تحالفات واتفاقيات رسمية وعلنية مع أصدقائه، تماماً كما فعل قائد قوات “فرنسا الحرة” الجنرال “ديغول” الذي بقي في “لندن” حتى تحرير “باريس”. يبقى أن يعترف الائتلاف بنفسه على أنه مسؤول عن سوريا والسوريين وأن يباشر رحلة العودة إلى أرضه وأهله.
لماذا يعتقد جهابذة الائتلاف أن وجودهم في مصر وتجوالهم العقيم بين عواصم غير ذات صلة هو شيء مفيد للثورة وللسوريين؟
وقت ٳعلان استقلال “ٳسرائيل” لم يذهب “بن غوريون” لا ٳلى لندن ولا ٳلى باريس بل بقي بين رجاله مخاطراً بحياته، هل كان العالم سيأخذ بجدية ٳعلان استقلال دولة “ٳسرائيل” وزعيمها مختبئ بأمان في عاصمة تبعد آلاف الكيلومترات عن دولته؟
تركيا تعترف بالائتلاف وتدعمه، فما المانع من اﻹقامة على الحدود السورية التركية ٳن وجد “زعماء الائتلاف” أن المخيمات التي يقيم فيها مواطنوهم مكتظة أو غير مريحة ؟ من يريد أن يعتبره السوريون زعيما عليه أن يكون بين السوريين في مخيماتهم واﻷفضل أن يكون في الداخل السوري المحرر.
مالذي يحول بين قيادة الائتلاف وبين العودة ٳلى الداخل السوري المحرر؟
متى يدرك جهابذة المعارضة السورية أن الأرض والداخل والشعب السوري هم الحكم وأن التسكع في عواصم العالم لن يكون بديلاً عن مواجهة الحقائق الميدانية والعمل المباشر على أرض الواقع؟
مم يخاف “قادة” الثورة ؟ هل تكون حياة أي منهم أثمن من حياة أي مواطن سوري يمضي يومه تحت القصف ؟ لا أحد يدعوهم للبحث عن المهالك ولا أحد يريد منهم أن يجاهروا بمواقع تواجدهم لكي يقصفها النظام “فالعمر ليس بعزقة” لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو : “من سيحرر سوريا من الاحتلال الأسدي ؟” إذا كان كل ضابط وسياسي منشق يفرح “بتأمين” نفسه وعائلته في مخيم تركي أو أردني، أو في شقة مفروشة ثم يجلس منتظراً أن تأتي جيوش الغرب المتحضر لتحرر له وطنه !
إخوتنا الفلسطينيون لازالوا ينتظرون هذه الجيوش منذ نيف وستين عاماً…
بعد عامين على اندلاع الثورة وأكثر من عام على إنشاء الجيش الحر أما آن الأوان لتشكيل رأس جسر في الداخل السوري المحرر ولو على بعد أمتار من الحدود بحماية كتائب من الجيش الحر؟ إن لم يتمكن قادة الائتلاف من تشكيل قوة عسكرية أو التوافق مع القوات الموجودة على الأرض لكي تقوم هذه القوات بواجبها المقدس في حماية ممثلي الشعب والثورة السورية فالأولى بالجميع أن يعودوا لبيوتهم ولايضيعوا وقت السوريين وأرواحهم في مناورات عبثية.
بكلمة أخرى، فمن واجب المجلس العسكري الحر أن يؤمن الأرضية الملائمة لاستقبال القيادة السياسية للثورة ولحمايتها والذود عنها بالغالي والرخيص. إن لم يتمكن هذا المجلس من مباشرة هذه المهمة الأساسية وهي التمهيد للانتقال إلى المستوى السياسي والإداري فسيكون الفشل من نصيب الثورة التي ستكون حينها مجرد أعمال عسكرية فوضوية و “عنتريات” غير ذات جدوى.
واجب القيادة السياسية أن ترتقي إلى مستوى المسؤولية الملقاة على عاتقها وأن تنتقل من العمل الإعلامي إلى الممارسة السياسية الفعلية على الأرض بحماية الجناح العسكري للثورة. هكذا تبنى الدول وهكذا هي طبائع الأمور. هكذا جرت كل الثورات وكل حروب التحرير الناجحة.
من حق قادة الائتلاف أن يخافوا من الموت قصفاً ومن حقهم أيضاً أن يرفضوا المخاطرة بترك مهاجرهم الآمنة والمريحة وحينها سيكون من حق الشعب السوري أن يرسلهم إلى سلة نفايات التاريخ.
صحيح أن احتمال تعرض قادة الائتلاف للخطر فور دخولهم الأراضي السورية هو أمر وارد، لكن فشل الثورة السورية هو أمر مؤكد في حال أسلمت قيادها لنخبة متخاذلة بعيدة عن أن تكون على مستوى المسؤولية. ربما تفقد الثورة السورية بعض وجوهها لكنها لن تفقد روحها ولا زخمها. غياث مطر استشهد وبقيت روحه ترفرف فوق صفوف الثائرين وتستثير هممهم.
الرئيس الأسمر “اوباما” ابتدع مصطلح “القيادة من الخلف” لتغطية غياب الروح القيادية والمبادرة لديه، المعارضة السورية “المخملية” تبدو وقد تفوقت عليه بمراحل فهذه المعارضة قد اجترحت مبدأ ” القيادة من اللا مكان” لتغطية خوائها وهلاميتها بل وعدميتها.
أحمد الشامي فرنسا ahmadshami29@yahoo.com