الشرطُ الأساسي في كل كتابة جديدة هو الشرط الانقلابي . وهو شرطٌ لا يمكن التساهلُ فيه ، أو المساومة عليه .
وبغير هذا الشرط ، تغدو الكتابة تأليفاً لما سبَقَ تأليفُه ، وشرحاً لما انتهى شرحُه ، ومعرفة بما سبَقَ معرفته .
الكتابةُ الحقيقية ، هي نقيض النسخ ، ونقيض النقل ، ونقيض المحاكاة الزنكوغرافية أو الطباعية .
فالقصيدة الجيدة هي النسخة الأولى التي ليسَ لها نسخة ثانية سابقة لها أو لاحقةً بها . يعني أنها زمانٌ وحيدٌ هاربٌ من كلِّ الأزمنة .. ووقتٌ خصوصي منفصلٌ كلياً عن الوقت العام .
القصائدُ الرديئةُ هي القصائدُ التي تعجزُ عن تكوين زمنها الخصوصي فتصبُّ في الزمن العام .. وتضيع .. كما تضيع مياه النهر في البحر الكبير .
إنَّ الشعراء في عالمنا العربي هم بعدد حبات الرمل .. في الصحراء العربية ، ولكن الذين استطاعوا أن يخرجوا عن المألوف الشعري إلى اللامألوف .. ويطلقوا في السماء عصافير الدهشة .. ويقيموا للشعر جمهوريةً لا تشبه الجمهوريات .. يُعَدُّونَ على الأصابع ..
بالشرطِ الانقلابي نعني خروج الكتابة والكاتب على سلطة الماضي بكل أنواعها الأبوية ، والعائلية ، والقبلية ، وإعلان العصيان على كل الصيغ والأشكال الأدبية التي أخذت _بحكم مرور الزمن _ شكل القدر أو شكل الوثن .
وبالشكل الانقلابي ، نعني إلغاء جميع حلقاتِ الذكر التي كان ينظمها دراويش الكلمة .. ومتعهدو حفلات الأدب .. ويدورون فيها حول ضريحٍ لا يوجدُ فيه أحد ..
ومهمة الكاتب الانقلابي صعبة ودقيقة .. لأنها تتعلق بإلغاءِ نظامٍ قائم ، له جذوره الدستورية ، والتاريخية ، والقومية ، واللغوية ، وإعلان نظامٍ بديل يصعبُ على الناس في بادئ الأمر الإيمان به والاعتراف بدستوريته .
ويظلُّ الكاتب الانقلابي يثيرُ الدهشة .. حتى تصبح الدهشة عادةً ثانيةً لا تثير حماس الناس وخيالهم .. فيبدؤون في البحث عن انقلابي آخر .. يحركُ طفولتهم .. ويرميهم في بحر الانبهار والمفاجآتِ الجديدة ..
وكما يكون الانقلاب السياسي في بدايته غامضاً ، ومضطرباً ، وحائراً بين الحلم وتجسيده .. كذلك يكونُ الانقلاب الأدبي في بدايته قلقاً ، وانفعالياً ، ومتوتر الأعصاب .. بانتظار الاعتراف الشعبي به ..
والاعتراف بالكتابة الجديدة يأخذ وقتا طويلاً .. لأن من الصعب كسر عادات الناس ، وتغيير غرائزهم الكلامية المكتسبة بين عشيةٍ وضحاها .
ولكنَّ الاعتراف بالكلام الجديد ، والكتابة الجديدة ، هو قضية وقت لا أكثر .. لأن أهم ما في الإنسان أنه حيوانٌ قابل للتحول والملاءمة مع كل المناخات .. وكل درجاتِ الحرارة .
ولقد تأكَّدَ لي ، بعدَ ثلاثين عاماً من التجارب الشعرية ، أنه لا يوجدُ إنسانٌ عربيٌّ محافظ حتى الموت .. .. كما أنه ليس هناك إنسانٌ عربي _مهما زهِدَ ولبس الصوف_ لا يطيبُ له أن يخلعَ عباءتهُ وخفيه ، ويلبسُ بدلةً من عند (تيد لابيدوس) أو ربطة عنق من تصميم (بيار كاردان) ..
والشعرُ العربي الحديث هو هذا التصميم غير المألوف الذي ضحكَ منه الجمهور العربي في الأربعينات .. وأصبحَ الآن يرتديه ليلاً ونهاراً دون أن يشعرَ بعقدة الذنب .. أو عقدةِ (الخواجة) كما يقول أهل مصر ..
الفرقُ بين رأس الإنسان وحبة الفاصولياء .. أن حبة الفاصولياء محكومة بقوانين فصيلتها النباتية لا تستطيعُ أن تتمرَّدَ عليها أو تتجاوزَها . في حين أنَّ رأس الإنسان صندوقٌ سحري مليء بالاحتمالات والمفاجآت ….
في حياةِ حبةِ الفاصولياء لا يحدثُ انقلاب يغير مجرى حياتها .. فهي منذ أن كانت ، لها ذات الشكل ، وذاتُ الأوراق ، وذاتُ الطعم ، إنها لا تنتمي إلى حزب ، ولا تسيرُ في مظاهرة ، ولا توزع منشوراً سياسياً .. فهي تولد .. وتكبر .. وتموتُ .. بنفس الطريقة .
أما رأسُ الإنسان فهو رحمٌ لا تعرفُ ماذا يخرجُ منه .. وماذا يحدثُ فيه .. وما هو نوع المخلوقاتِ التي تتشكلُ في داخله ..
ولأنَّ رأسَ الإنسان ، بحكمِ حرية اختياره ، هو مجموعة من المجاهيل ، فإن الحياة تنتظرُ منه أن يبدعَ ، ويُجَدِّدَ ، ويخرج عن سلسلة العادات والقوانين التي تتحكم بنمو الشجر .. وسقوط المطر ، وهبوب الريح .
بكلمةٍ واحدة . على الكاتب الذي يحترم نفسه ، ويحترم الآخرين أن لا يكون حبة فاصولياء …
كيف لا يكون الكاتب حبة فاصولياء ؟
بإلغاء ذاكرته .
إنَّ علَّة الشعر العربي الكبرى هي أنَّ ذاكرته قوية . والذاكرة بصورة عامة خطر على الشعر ، لأنها سهمٌ متجهٌ إلى الوراء .. لا سهم ذاهب إلى المستقبل .
نحنُ لا نكتب . وإنما نمارسُ مجموعةً من العادات الكتابية . ولا نقول الشعر . وإنما نتذكر ..
إن النسيان عاملٌ هامٌ جدا في عملية الإبداع . والقصيدة التي لا تستطيعُ نسيان تفاصيل طفولتها ، لا تملكُ القدرة على تصور مستقبلها . هناكَ ألفُ سنةٍ على الأقل من تاريخ الشعر العربي كان فيها هذا الشعر يصدرُ عن ملكةِ التذكر ..
شاعرٌ نابتٌ كالنخلةِ في الصَّحراء ، يُقدم النموذج –الأم ثم تبدأ عملية صك النقود .. وتُطرد العملة الجديدة .. ويستولي النظامون والنساخون وأصحاب ماكينات الأوفست .. على الحكم ..
الذاكرةُ الميكانيكية هي عامةُ الشعر العربي ، سواء كانت هذه الذاكرة قومية ، أو تاريخية ، أو أكاديمية مدرسية .
لأنَّ الذاكرة في نهاية الأمر ، هي تعليبُ الأشياء بحالتها الأولى .. وتجليدها في حرارات واطئة جدا كما تجلدُ اللحوم والأسماك ..
لقد أكلنا خلال خمسمائة سنة من عصور الانحطاط سمكاً مجلداً … حتى تسممنا بمادة الزئبق ، وأُصيبت بلاغتنا بفقر الدم .. وأهم ما فعله الشعر العربي الحديث من حسنات أنه أنهى تجارة السمك المجلد .. واتجه إلى البحر ..
الكتابةُ الجديدةُ هي التي تتخذُ من البحر نموذجاً لها .
فالبحر هو النموذج الانقلابي الأمثل ، حيث الماء يثور على وضعه في كل لحظة .. ويناقضُ نفسه في كل لحظة .. ويفقدُ ذاكرته في كل لحظة …
أن تكون كاتباً عربياً ، في هذه المرحلة الساخنة بالذات ، دون أن تؤمن بالشرط الانقلابي .. معناه أن تبقى متسولاً على رصيف لطفي المنفلوطي .. وأبواب المقاهي الراوي التي يقرأ الراوي فيها قصة عنترة والزير وأبي زيد الهلالي ..
وأن تكونَ كاتباً عربياً ، في هذا الوطن الخارج لتوه من غرفة التخدير والعمليات ، دون أن تؤمن بالشرط الانقلابي ، معناه أن تبقى حاجباً على باب السلطان عبدالحميد في الآستانة .. أو عضواً في حكومة الأقلية البيضاء في جنوبي أفريقيا .. أو وزيراً بلا حقيبة في حكومة المحافظين في إنكلترا ..
إن المكان الطبيعي للكاتب العربي المعاصر ، هو في صفوف الانقلابيين . ومهما اختلفت المواقف الوجودية بين كاتب وكاتب .. وتباينت الرؤى بين شاعر وشاعر .. فإن القاسم المشترك بين كل من يكتبون … هو الثورة … والرغبة المشتركة في تغيير جلد العالم العربي .. وتغيير دمه ..
هذا هو الهدفُ العام الذي تركضُ باتجاهه كلُّ الخيول .. وإن اختلفت طريقة الركض .. وأسماء الجياد ..
“الكتابة عمل انقلابي” هي مجموعة مقالات للشاعر نزار قباني… نُشِرَت له في مجلة (الأسبوع العربي) خلال الأعوام 73/74/75 على التوالي…
ثم تم تجميعها لاحقا في كتاب واحد تحت هذا المسمى…