لينة أحمدعطفة
———————
غريب كيف يصبح القليل كثيرا حين نكون سعداء غريب كيف تتكثف لحظات الألم و تبتلع أرواحنا و الذاكرة لا تمتلك غير احتضان حسرتنا …. الذاكرة هي الله في زمن الموت و السلطة .. أكثر ما أتذكره منك اليوم يا سمر هو صوتك (( بي بي بي بي ب ب ب … )) ملامحك مشوشة .. لكن أتذكر أنك نحيلة جدا و أن شعرك أسود و عينيك أكثر سوادا .. صورك أيضا مشوشة لا تحمل توضيحا إلا لروحك المنقوعة بالألم .. سمر .. عمتي .. أصيبت بالسحايا عندما كانت في الثانية من العمر و كانت النتيجة تخلّفا عقليا حادا و خللا مزمنا في التواصل و النطق و كل شيء… لكن ذلك لم يطمس جذر شخصيتها و هو الخبث و خفة الظل .. سمر تحب استفزاز الآخرين و لفت أنظارهم .. تحب أن تلعب ألعابا شيطانية خطرة .. كانت تصعد إلى سطح البيت .. تجلس على الحافة و تدلّي ساقيها إلى الأسفل مطلقة صرخات استغاثة و استنجاد و بكاء مفجعا .. مدعية أنها على وشك السقوط .. كان أهل الحارة و العابرون في الشارع يتجمعون عند البيت تحت قدمي سمر مأخوذين برعبهم عليها .. مصدقين أنها على وشك السقوط و أيديهم ممدودة لتمسكها عند سقوطها .. صارخين بملء قلقهم : (( لا تخافي يا عمو .. سنمسكك .. تمسكي جيدا .. )) .. سمر كانت سعيدة بقلقهم .. كلما ازداد صراخهم و امتدت أيديهم أكثر صوبها .. ترتفع صرخاتها و انتحاباتها و تخبطات ساقيها و تلتمع عيناها بمزيد من المكر و الضحك .. و لا يوقفها شيء إلا عودة خالها من عمله .. كان يعود من عمله و يجد الناس متجمهرين تحت البيت بأيديهم الممدودة و سمر جالسة جلستها الملعونة و غارقة في نداءاتها المذعورة .. ما إن يطل الخال و يرى المنظر حتى تبتلع وجهه ابتسامة .. و يوقن أن سمر تلعب و تتخابث و تتسلى بأعصاب الناس .. ومن أول الحارة على بعد عشرين مترا من البيت يصرخ الخال فيها: (( انزلي .. انزلي ولك ملعونة ..و الله لشيل عيونك يا كلبة ..)) تسمعه سمر و ما تلبث أن تنتصب واقفة و تغرق في نوبة ضحك هستيري و تنسحب مسرعة لتختبئ في حضن أمها .. يقترب الخال و يعتذر من الناس المتجمهرين لأكثر من ساعة و نصف .. و يدخل البيت محاولا كبت ضحكته و يخاطب سمر : (( و لك ملعونة لا تعاودي خبثناتك اللعينة .. هذه المرة سأتركك .. لكن في المرة القادمة سأشمط لك أذنيك )). سمر تستمتع بالتوبيخ وكأن أحدا يدغدغها .. وتعاود كرّة الصعود إلى السطح مرات ومرات … ولا تنزل إلا حين يصرخ بها خالها ….
الخال كان منخرطا في العمل السياسي السري ومنتميا إلى أحد الأحزاب المناوئة للنظام وكان مهددا بالاعتقال وعندما أحس بحتمية خطر اعتقاله اشتعلت مخاوفه وهواجسه المتأججة وكانت إحداها سمر ومغامرتها المجنونة على حافة السطح .. كان يعلم أن لاشيء يردعها سوى صوته خاف عليها وقلق على أمها من الكركبة التي ستتسبب بها سمر أثناء غيابه وقرر أن يحضر مسجلة ويسجل صوته وهو يوبخها لتنزل عن السطح .. بعد أسبوعين اعتقل الخال اكفهر البيت لكن سمر لم تكفهر تابعت شيطناتها وصعدت إلى الحافة أسرعت أمها وكبست زر المسجلة ودوى الصوت : (( انزلي ولك ملعونة… والله لشيل عيونك .. انزلي … انزلي يا سمر .. انزلي ولك…)) تنفجر سمر من الضحك وتنزل مسرعة لتختبئ في حضن أمها….
استمرت سمر بالامتثال للصوت الخارج من آلة التسجيل لأكثر من سنة دون أن تعرف سبب غياب الخال وحضور صوته .. استمرت شيطنات سمر على السطح وفي كل أنحاء البيت .. آخر ما استفزّ فضولها كان القبو الذي نسيت أمها إقفاله .. دخلت تفقدت المكان ورأت آلة التسجيل وبدأت تعبث بها وتكبس الأزرار وفي غمرة اللّعب كبست زر التشغيل ليرتفع صوت الخال : (( انزلي ولك ملعونة … ….)) اصفرت سمر وارتجفت احتضنت آلة التسجيل وغابت في نوبة نحيب فجائعي ولم تصعد بعدها إلى السطح .
بعد مرور اثني عشر عاما خرج الخال من المعتقل.
بعد اثني عشر عاما ازداد وضع سمر سوءا ليرافق تخلّفها العقلي تخلّف جسدي مزمن أيضا .. سمر أصبحت عاجزة عن الحركة تماما .
وصل الخال من سجن المزة إلى سلميّة منهكا نحيلا بنظارات سميكة وروح منهكة .. دخل البيت وسط ضجيج الفرح بعودته … كنت يومها في الرابعة من عمري أذكر جيدا كيف عانقه أبي وقال سلموا على جدكم يا صبايا عانقناه أنا وأختي .. حيا الجميع والتفت باحثا عن سمر صرخ لها : يا سمر !.. يا سمورة !.. دخل إلى غرفتها ودخلنا وراءه .. سمر المشلولة كانت ترتجف وتبكي وعيناها تبحثان عن الصوت وما إن رأته حتى علا صوت بكائها ونحيبها الذي حفر في ذاكرتي مذ كنت في الرابعة … نحيبها المر وشفتاها اللتان لم تنطقا صوتا يعبر عن فرحها وحزنها .. لم تخرجا صوتا سوى النحيب و (( بي بي بي ب ب ب …..)) .
[ قرأت ما كتبت للخال العجوز وسألته عن رأيه تبسم الخال وقال : رحمة الله عليك يا سمر . لم يبق لنا بعد الثمانينات .. و أمام ما يحدث اليوم ونحن نخرج من نفس القمقم ونعاني ما نعانيه من الألم لم يبق لنا إلا أن نصرخ للرأي العام العربي والدولي (( بي بي بي ب ب ب ….))] .