بقلم نبراس شحيد
في مديح “الأعداء”!
قدّم المتظاهرون الغاضبون إلى منتجي الفيلم المسيء خدمةً عظيمة حين قلبوا الفيلم البائس حدثاً مهماً تتناوله وسائل الإعلام كلها، ويشاهده الناس في أصقاع العالم على الرغم من سخافته الشديدة! لكن الخدمة الأهم التي قدمها المحتجون إلى منتجي الفيلم هذا كانت، من دون شكٍ، تعزيزُ أطروحتهم الخاطئة التي تربط الدين الاسلامي النبيل أوتوماتيكياً بالعنف. للأسف، كانت الطريقة التي استنكر بها المحتجون الاساءة إلى دينهم، بما تسبّبته من قتلٍ وبغضٍ وفوضى، طائشةً إلى حدٍّ توطّد معه الخوف من الاسلام عند البعض! إلّا أنّ الغضب الشعبي هذا لم يكتفِ بخدمة الفكر المسيء للإسلام الذي انتفض ضده، بل كان من حيث لا يدري أيضاً سنداً كبيراً للأنظمة الديكتاتورية العربية، لأنه عزز الأطروحة التي تسوقها الأنظمة هذه عن ضرورة الديكتاتوريات للوقوف في وجه الإسلاموية السياسية المتطرفة، وخصوصاً أن الاحتجاجات، أعنفها، كانت في بساتين “الربيع العربي”.
في ثقافة “العدو المتخيل”
كل ما ذُكر أعلاه، وإن كان مهمّاً، سيظلّ ثانوياً أمام التناقض الكبير الذي كشفه انفجار الشارع الغاضب، عبَّرت عنه بصدق إحدى اللافتات التي رفعها ثوار عمودا: “يومياً من سوريا تُعرض أفلام تسيء لله وللرسول فأين أنتم يا مسلمون؟”. تقوم الدنيا ولا تقعد ضد إساءة سينمائية رديئة للمقدسات، يقدمها فيلمٌ لا يُعرف أصله وفصله، في حين لا يحرك العالم ساكناً، أو يكاد، أمام ما يجري يومياً وواقعياً من إساءة للمقدسات في سوريا. “هل الرسول الذي يهان في سوريا هو نفسه الذي يهان في أميركا؟”، تتساءل لافتةٌ أخرى بسخرية! تغصُّ الشوارع بالغاضبين، مع أن الكثير منهم لم يشاهد الفيلم المسيء قبل التظاهر، في حين رأى ويرى الجميع كيف تُداس المقدّسات يومياً، وتُهدم دور العبادة في سوريا، من دون أن يكون لهذا الواقع وقعٌ عمليٌّ جماعيٌّ يذكر! التناقض فاضح، فـ”المقدّس” هو ذاته هنا وهناك، والإساءة “هنا” تتجاوز آلاف المرات الإساءة “هناك”، لكن الغضب ينفث نيرانه “هناك” لا “هنا”! تعبّر الظاهرة هذه بدايةً عن طبيعة الجرح الذي تفتحُهُ الإساءة الى “المقدّس” في وريد الشارع: جرحٌ غير مرتبطٍ بحجم الإساءة بقدر ما هو مرتبطٌ بهوية المسيء، وإلا لكانت الشوارع قد اكتظت منذ زمنٍ بعيدٍ بالمنتفضين ضد الإساءات للمقدسات في سوريا! ما يؤجج مشاعر الغاضبين هو صورة مقدساتهم في عيني “الغرب” قبل حجم الإساءة وطبيعتها! هذا لمسناه بشكلٍ جلي من خلال التعميم الساذج الذي اكتسح الشوارع الغاضبة ناسباً الفيلم، الذي أنتجته مجموعةٌ من الأشخاص، إلى “الغرب الكافر”، فحلّل قتل سفير لأنه ينتمي إلى بلد سيعرض فيه فيلمٌ مسيء (ليبيا)، وشرّع حرق السفارة الألمانية لأن الطريق إلى الأميركية عصيّة (السودان)! بكلماتٍ أخرى: ترتبط الإساءة قبل كل شيء، في منطق الشارع الغاضب، بالصورة التي يكوّنها الآخر الغربي عنه لا بواقعية الإساءة وموضوعيتها، ليتكشّف شيءٌ عميقٌ من عقدة النقص المستترة التي تستولي علينا.
في متاهات “المقدَّس”
لكن، إذا كان أثر إساءة “المقدّس” مرتبطاً أولاً بهوية المسيء وبصورته عنا لا بحجم الإساءة نفسها، فهذا يعبّر من جهة ثانية عن حقيقة الثقافة السائدة في الشارع الغاضب: إنها ثقافة تهتم بمنظور الآخر عنا أكثر من اهتمامها بما نعيشه هنا على مستوى الواقع! ما يثير غضبنا هو الإهانة التي نشعر بها شخصياً حين يمس الأجنبي رؤيتنا عن “المقدّس”، في الوقت الذي يبقى فيه “العدو الحقيقي”، من ينهش لحمنا في عقر دارنا، ويسرق خبزنا، ويدمر بيوتنا، وينتهك أعراضنا، ويدوس مقدساتنا بـ”بسطاره” الأسود، ثانوياً! لذا لا ينحصر التناقض المسيطر على ثقافة الشارع الغاضب في بعده الديني (الذي يدين إساءة “المقدّس” في أميركا ويتجاهل ما يجري في سوريا)، بل يرسم قبل كل شيءٍ فصامَ الديني عن الإنساني وواقعيته، فما يثير الغضب هو الإساءة التي تطال “المقدّس” لا الظلم الذي يدوس كرامة الإنسان في سوريا الجريحة، وكأن لا علاقة لـ”المقدّس” بالإنسان! من المنظور هذا، تتحول اللافتةُ التي رُفعت في عمودا، معريّةً حقيقة العدو المتخيل، لافتةً إشكالية، لأنها تختزل “المقدّس” في معناه الديني المباشر، وتطالب “المسلمين” بالتدخل نصرةً لدينهم لا نصرةً للإنسان المذبوح والمتألم بغض النظر عن دينه: “يومياً من سوريا تُعرض أفلام تسيء لله وللرسول فأين أنتم يا مسلمون؟”! هكذا تبقى اللافتة هذه، وما شابهها من لافتاتٍ ومطالب وشعارات، ملتبسة، لأنها تهتم برؤية الآخر عن “المقدّس” قبل أن تهتم بواقع الإنسان. بمعنىً آخر: حتى لو ثار الشارع العربي نصرةً للمقدسات المستباحة في سوريا، فإن ذلك لن يغيّر شيئاً من جوهر المأساة، لأن الشارع لم يتحرك أولاً للدفاع عن الإنسان المظلوم!
لا تكتفي الثقافة السائدة في شوارعنا إذاً بمحاربة “عدوٍ متخيلٍ”، “هناك”، متجاهلةً ما يجري “هنا” في ربوعها، بل تتجلى قبل كل شيء ثقافةً منفصلةً عن كثافة الواقع ونسيجه الإنساني وأنينه المتألم. ما يميّز الواقع السوري هو ألمه، جسده المشظّى، صراخه، جوعه، عطشه، رغبته المتجسدة في الحرية، وهذا ما لا تستطيع الثقافة السائدة في الشارع الغاضب أن تأخذه في اعتباراتها لأنها تبقى سجينة مسارات عقدة النقص ورؤية الآخر عن مقدساتنا. هي ثقافة تهتم بـ”الهناك” على حساب “الهنا”، بـ”الأبد” على حساب الزمن، بدلاً من البحث عما يمكن أن يربطهما! باختصار هي نوع من غربة الإنسان عن عمق واقعه الإنساني، وعن آلامه وتطلعاته المتجسدة!
في سحر “الأصنام”
لا يكتفي شكل الغضب الذي خيم على شورعنا بكشف الارتباط العضوي بين جرح الكرامة الدينية من جهة أولى وهوية المسيء ورؤيته عن “المقدّس” من جهةٍ ثانية (قبل ارتباطه بحجم الإساءة نفسها أو بمعاناة الواقع والجسد)، بل يكشف أيضاً شيئاً كثيراً عن طبيعة العلاقة السائدة مع “المقدّس”: إنها علاقة عصبية قبل أن تكون روحانية! الأمثلة كثيرة، ويكفينا أن نسترجع حوادث عشناها أو سمعنا عنها تشاجر فيها شخصان من دينين مختلفين، ليصطف أهل الحي (حتى لو كانوا غير ممارسين لشعائرهم الدينية) في معسكرين بحسب دين المتشاجرين لا بحسب القضية التي دار حولها الشجار. “المقدّس” الديني في الثقافة هذه هو مركبٌ من مركبات هوية الجماعة، ولذا يصير دفاع الشارع عن “المقدّس” دفاعاً في الوقت ذاته، وبشكلٍ متناقض، عن المحتجين أنفسهم. التناقض هنا بيّنٌ، فالشارع الغاضب يعترف بقدرة “الله”، وفي الوقت عينه يدافع عنه وكأن “الله” يحتاج إلى محامين! هكذا، لا تكتفي ثقافة الشارع الغاضب بنسيان “الهنا”، وبتهميش الإنسان، من خلال التغريب الذي تغرقه فيه عن واقعه، بل نراها أيضاً تقلب “المقدّسَ”، من حيث لا تدري، “صنماً”! يصير “المقدّس” صنماً حين نُنَصِّبُ ذواتنا مدافعين عنه، لنحامي في حقيقة الأمر عن أنفسنا وجراحنا، فنحمّل “المقدّس” ما نرغبه نحن ونشتهيه، ويتغرّب “المقدّس” عن جوهره ليصير “وثناً”.
في المقام هذا، يصير “المقدّس” “صنماً” حين يتحول محضَ امتدادٍ للجماعة ورغباتها في كمال صورتها أمام الآخرين. يصير “المقدّس” “صنماً” حين يُسجن في جمودِ فكرةٍ أو مصطلحٍ أو جماعة. يصير “المقدّس” “صنماً” حين يتحوّلُ اسماً للموت لا اسماً مُحيياً، فنقتل ونخرّب باسم “الله”، أو ننظر بفوقية إلى “الآخرين” (والكلام موجه إلى الجميع، مسلمين ومسيحيين و…)، مدعين امتلاك الحقيقة، وكأن الحقيقة شيءٌ يمكن امتلاكه لا بحثاً دؤوباً مستمراً لا ينتهي! يصير “المقدّس” “صنماً” حين تصير “كرامته” منفصلة عن كرامة الإنسان وعن معاناته “هنا” و”الآن”، فيثور الشارع على فيلمٍ مسيءٍ وينسى واقع الإنسان السوري ومذلته اليومية. يصير “المقدّس” “صنماً” حين يُهمّش الإنسان، فينقلب الدين هرباً من كثافة الواقع والجسد! لذا سيبقى مشروع الربيع العربي ناقصاً إن لم يستطع أن يُخرج من رحمه فكراً دينياً جديداً يتجذر في نسيج الواقع الإنساني، لتصير الكرامة البشرية، في منطق “المؤمنين” أنفسهم، الأولويةَ الأولى لأنها من كرامة “المقدّس” ذاته!
و نُشرت أيضاً في النهار