16/09/2011
السفير
————————
بين حينٍ وآخر، تم اختزال علاقة الدين المسيحي بالسلطة إلى حالةٍ من الرضوخ؛ وبرر البعض ذلك استناداً إلى قراءةٍ إيديولوجيةٍ مغلوطة لما ورد في رسالة القديس بولس إلى أهل روما: «على كل إنسانٍ أن يخضع لأصحاب السلطة، فلا سلطة إلا من الله، والسلطة القائمة هو الذي أقامها» (رو13، 1). هذا التعليم لا يمكن أن يتحول إلى عقيدة، فبولس في الرسالة ذاتها يطالب المؤمنين بمسالمة الجميع «إن أمكن» (رو12، 18)، أي ضمن حدود المقبول. أضف إلى ذلك أن الرسالة إلى أهل روما لم تكتب في زمن اضطهادٍ ممنهج (شتاء عام 57-58)، مما يفسر تجنب الكاتب الخوض في موضوع مقاومة السلطة عندما تفسد.
في الوقت ذاته، يعري الكتاب المقدس السلطة حين تبطل ويرفض الإنسان الخنوع لها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يعرض لنا سفر الرؤيا في فصله 13 تحليلاً معمقاً للبنى «التوتاليتارية» (الشمولية) التي قد تبـنى عليـــها سلطات كهذه.
الشر كفكرةٍ مجردة، ورمزه التنين، تجسّد قبل كل شيء بحسب سفر الرؤيا في وحشين. يحيلنا الأول إلى روما عندما تحولت قوتها إلى عنفوانٍ وحشيٍّ سافر تجلى في انحراف السلطة من الخدمة إلى التسلط، فسحقت الأحرار (رؤ13، 7) وأجبرت البشر «بكبريائها» على السجود أمام عروشها متغنين بفرادتها المزيفة: «من مثل الوحش؟ ومن يقدر أن يحاربه؟» (رؤ13، 4). إذن يحاول هذا التساؤل طمس التعجب الذي يحمله اسم ميخائيل، ويعني «من مثل الله؟» (الفصل 12)؛ وبالتالي، يقوم هذا الوحش أساسا على بنىً إيديولوجية وعسكرية تسمح له بتنصيب نفسه مع التنين على عرش المطلق. أما الوحش الثاني، فيمثل القوة النبوية الكاذبة المدافعة عن طغيان الأول، مجسداً بذلك كل المنظومة الإعلامية التي يستعملها هذا لترسيخ سلطته جاذباً الأغلبية من خلال إيهامها برعايته وتشويه وعيها العام، فها نحن نرى كيف صنع الثاني «معجزاتٍ عظيمةً»، أو بالأحرى ما يشبهها، «وخدع (بها) سكان الأرض» (رؤ13، 14). هو إذن صورة الحَمَل بصوت تنين (رؤ13، 11)! لكن هذا التضليل المعلوماتي القائم على تمجيد السلطة لا يمكن أن يتم إلا من خلال منظومةٍ أمنيةٍ قمعية تبيد «جميع الذين لا يسجدون لصورة الوحش» (رؤ13، 15). وليس هذا فحسب، بل يمثل الوحش الثاني أيضاً الطاحونة الاقتصادية التي تسحق كل من لا يدخل في منظومة فساده بحيث «لا يقدر أحدٌ أن يشتري ويبيع إلا إذا كان عليه سمةٌ باسم الوحش أو بعدد أسمائه» (رؤ13، 17). بمعنىً آخر، يؤسس الوحش الثاني سلطة الأول من خلال المؤسسات الأمنية والإعلامية والاقتصادية محتكراً الموارد كلها، وآمراً «سكان الأرض بأن يصنعوا صورةً (للأول)» فيعبدوها، ونافخاً فيها «حتى تتكلم» (رؤ13، 14-15). وبما أن الوثن لا يستطيع الكلام، تتحول لغة الوحش إلى نفيٍ للغة يتم فيه إخراس الآخر وتحطيم اختلافه. وهكذا تتحول اللغة إلى مونولوجٍ نرجسيٍّ قاتل تمجد فيه السلطة ذاتها بعد أن سحقت كل ما في الأصوات الأخرى من غيرية. إذن يقوم المنطق التوتاليتاري بحسب سفر الرؤيا على أدلجة السلطة لتأمين التماهي مع المطلق نافيةً كل صوتٍ آخر، ومسخّرةً من أجل ذلك كل الموارد العسكرية والإدارية والاقتصادية والأمنية والإعلامية. باختصارٍ شديد، يقوم المنطق التوتاليتاري على تأليه فكرةٍ أو شخصٍ أو حزبٍ ما في تماهٍ أعمى بين ماهية الامبراطورية وشخص الامبراطور.
هذه هي السلطة التي يرفضها الكتاب المقدس لأنها تتموضع في «مكان» من لا موضع له، أي في «مكان» المطلق الذي لا يمكن بالتعريف أن يكون بشراً. هكذا يؤله التنين ذاته على أنه معطي الحياة، وهكذا يقدِّس الكثيرون راعيَ الموت الذي يحاول ابتلاع مولودنا الجديد (الفصل 12). وبين المـــوت القـــديم وما يمكن أن يكون حياةً جديدة، وبين عبادة التنين ومخاض الحرية، يحيلنا سفـــر الرؤيـــا إلى أصوات ضمائرنا في عـــالمٍ تمجَّد فيه الوحوش ويرفع لها البخور: «من كان له أذنان سامعتان، فليسمع!» (رؤ13، 9)