.
في حديث ذو شجون، في سوريا البعيدة الآن بعد سور مكة عن الكافرين، والقريبة دائماً.
سألتُ والدي ذاتَ مرة: أهناكَ قدَرٌ محكم، ينتهي بالإنسانَ إلى نهاية محتومة، ويطالُ بعض َالناس ِ؛ دونَ غيرهم؛ كأنه بصمةٌ وراثية! قال : نعم ْ! ولكِ أنْ تُسمي هذا القدر: اختيار ما يستوجب القهـرِ تحتَ سلطان قوةٍ غاشمة؛ تضعُ الحدودَ في وجه ِكلِ مسعى ممكن ٍ في هذه الحياة للإنسان الشريف؛ دون َغيره من سائر الناس!
– تابع يقول: بعيداً عن اللغة والمجاز، سأضرب ُ لكِ مثلاً حسيّاً من تاريخ ٍعشتِ بعضاً من فصوله معنا: إنَّ علاقة أسرُتنا الكبيرة بسجون ِالبعث في سورية، أوثقَ من ْعلاقتها بالمساجد؛ إذ ْ ظل يُسجنُ رجالـُها منذُ ظهرَ البعث في عام 1963، إلى يومنا هذا ؟! وإذا وسَّعنا الدائرة بانفراجةٍ قليلة – ينطبقُ الحال ُعلى أولادِ عمومتي كلِّهم! وإذا احتكمنا إلى النسب المئوية، فإنَّ نصفَ العائلتين قد غيَّبتهم عتمة ُ السجون السورية؛ على اختلاف مسمياتها وأطيافهم لسنوات عديدة ومديدة ؟! ومع ذلك، لم نقرَبْ سفارةً؛ لا شرقية ولا غربية، ولم نقبلْ صلة ًمن دولة، أو منظمة؛ تحتَ أيَّ عنوانٍ، ملتبسٍ، أو نبيل ٍ، وخرجنا من الدنيا ومتاعها، بالثياب التي تستر عورَاتنا؛ وظللنا على ما اخترناه دون أنْ نمننَ على أحدٍ قهرَنا وعذابَنا لا البارحة ولا اليومَ ولاغداً ولا في المستقبل البعيد. فالجار والدار والغريب والقريب يقر لنا بهذا والنظام السوري يعترف به رغما عنه!
– من دِلالة هذا الشجـن ِالسياسي، بنيتُ فكرةَ مقالتي هذه، لأصلَ بيقين لهذه النتيجة: الوطنية ليستْ عباءة نـرتديها ؟! وليستْ منحة منْ سلطةٍ، أو حاكم! فلا السلطة تلبسنا إياها؛ ولا الحاكم يخلعُها عنا؟! ولا شركاء الطريق للغاية والهدف بطبيعة الحال. ولطرحي هذا من زاوية الرؤية هذه أسباب شخصية ، وموضوعية:
– عشتُ قبلَ الرحيل عن سورية غربة ًموحشة فيها، – نظراً لتاريخي الجيني المذكور وعيشي بها، كرعية ناطقة -. ورحلت عنها وغربتي فيها تنهش روحي أكثر من استيحاشي في الاوطان البديلة! وظلت سورية على طول سنين هذه الغربة مطعنا في القلب والخاصرة. حتى فعلها ابــــناء جلدتنا بكرامة ثائرة وهزوا عروش الجرح السوري القديم وثاروا لنا ولهـــم على جلادينا.. اشتعلتْ المحنة في سورية ونحن نعـــيشُ في ظل الغياب، نراقبُ من بعيدٍ تلاطـــمَ الموتِ وهو يحصد النفوس في المدن وحتى في القرى النائية جغرافياً وعن البال، في حربٍ ضروس، بين الحناجر والمدافع وبتنا في غربتنا القـــسرية نتنــقل بين الصور والأخـــبار ومواقع الانتـــرنت نندبُ كالنــــائحـــات على شواهد القبور، ‘وكأنَّ القيامة َ تقومُ على أهلنا السوريين وحدهم!
– في غربتنا، تفاعلنا مع الأحداث بمرارة؛ وبإيجابية فاعلة، و توزَّعنَا على مؤتمرات الداخل، والخارج من أجل الخلاص والسلم الأهلي. وغضبنا بخجل- عملاً بالقواعد الديمقراطية الوليدة – من خروج بعض جيوب معارضة الداخل والخارج عن الإجماع، بعد أنْ نسوا تاريخهم النضالي العتيد وأفتتنوا بالحوار مع السلطة وبالرغبة العارمة للجلوس على الطاولة المستديرة مع موظفين لا مع أصحاب القرار، ولم يلجم شهوتهم المتأخرة هذه -لحسن الحظ- سوى سطوة الشارع ذي القول الفصل؛ في ظل تعامي النظام في سورية عن وجود أزمة عميقة تهددُ الناس والطير والحجر!
– كل ما ذكرته مفهوم ٌ وواضح؛ ماهو غيرمفهوم أنْ يَطلع َعلينا أو يلحق بنا في ظل هذه المحنة، في منافينا رجالٌ أو نساء -كظلنا، محسوبينَ على أهل الرأي والسياسة. نعيشُ بينهم، أونتقاسم معهم ظروف التغريب وألمه؛ وربما المصير المشترك ذاته؛ -إنْ أدركوا هم هذه الحقيقة- هولاء الرجال للأسف- أمرُّ علينا من مندوبي الأمن السوري، ولسانهم أقسى علينا من مثقفي السلطة هناك! هؤلاء الذين لم أمنع نفسي من وصفهم لغرابة دورهم السيئ ‘ بـقاطعي تذكرة باتجاهين ‘تو- وي تيكت’ واحدة للذهاب والأخرى للإياب! ومعظمهم -للأسف أيضاً- من السوريين الذين حافظوا على مناصبهم ومكاسبهم بتناوبهم على لعب دور محامي الشيطان على مر المحنة، متذرعين بالتضحيات الجزيلة للوطن وبرؤيتهم الاستشرافية الحسنة للمستقبل المشترك وبمعرفتهم المطلقة للجهر وما يخفى المناط بهم حكماً والعصي عن الفهم للآخرين من السوريين!
وأصحاب اللهفة الكاذبة هؤلاء، قد جُبلوا على الكراهية، وعلى فقه الإقصاءِ للآخر ظلماً وعدواناً! سلاحهم الحاد والمسلول هو ثقافة التخوين! إّذ تراهم يعقدون محاكم التفتيش والإرهاب الفكري؛ ويحملون مساطرَ الحقيقة المطلقة، وموازينَ الوطنية الزئبقية، ليقيسوا حرارتها العالية والواطية في النفوس! وبعدها يقررون ما هم فاعلون بنا تأسيساً على نتائج فحص النوايا، وتقليب القلوب، فينسوا القضية الكبرى ويسعون بدأب ولؤم مسبوقين للتشكيك بنا -نحن الأقل وطنية برأيهم- وبجهودنا وبدورنا وبوجودنا وبتاريخ وجعنا فنصبح في موقع آلمتهم ويصبحون الخصم والحكم والجلاد!
فبعد عقود من الصمت، يخرج هؤلاء عن صمتهم الخؤون ليكيلوا لنا الاتهامات والتوصيفات والأحكام وكأننا بحاجة لديكتاتوريين جدد ليدخلوا بنا إلى غياهب جب جديد من القمع الفكري والتحجيم والإقصاء وبنكهة مختلفة هذه المرة!
لهم أقول:
الله وحده يفتش على النوايا ‘ ويعلمُ خائنة الأعين وما تُخفي الصدورُ ‘ وثقافة النمِّ، والذَّم ِ والتخوين هذه لا تأخذ ُ ثاراً ولا تمحي عاراً؟!
– ولكل السورين أقول:
الوطنية ليست رداءاً نلبسه في الاحتفالات الوطنية والحزبية والمأتم والأفراح العامة، وليستْ لغة نرطنُ بحروفها ومفرداتها من على منصات الخطابة في شتى المناسبات. ولا هي حسنُ نوايا نظهرها خيفةُ للسلطة في السر، وتملقاً للمعارضة في العلن! ولا امتطاءا لجثث أبناء بلدنا بغية منصب أو مكسب أو كرسي وثير! والوطنية كذلك ليستْ وظيفة ً، ولا نسباً ولائياً، ولا بطاقة أحوال شخصية، ولا ادعاءً زائفاً، أو بياناً ملتبساً حَمَّال أوجه!! الوطنية ثقافة جامعة، يقف فيها الجميع على أرض واحدة، و تحتَ سقف واحد، لا ظلَ فيه لعصبية ، ولا مذهبية ولا طائفية ولا مناطقية . الوطنية دين وهوية لذلك المواطن الذي أُشتقَ اسمه من الوطن، هذا الوطن الذي يُبنى بالماء والطين،ِ ويُصانُ بفعل رجاله ونساءه الأحرار .
وطن لا مكان فيه لخائن او مخون او متكسب او انتهازي او طلاب منصب !
– الوطنية ليست عباءة نرتديها ، الوطنية ببساطة :
فعل ٌ،لا قولٌ …
* اعلامية سورية تقيم في قطر
تعليقان
لا فض فوكي …
مقال جميل وجريئ