يوسف أبو خضور
هذه القصة خالية من الزمن .لقد توقف الزمن و تجمد عند تلك اللحظة التي سقط فيها “باكيت الحمرا القصيرة ” من جيبه و سال شئ لزج على يدي التي وضعتها تحت رقبته و يدي الأخرى على خصره في محاولة مني لحمله , بعد ان اقنعني الشاب الواقف فوق رأسي بأن صديقه ما زال حيا ,عندما رفعته بقوة و سحبته الى صدري , تبين لي ان رأسه كان فارغا ,مفتوحا من الجهة الأخرى و دماغه كان يسيل على الارض.
سقط من بين يدي و تركته مذهولا , مرعوبا……
ما زلت أجهل كيف وجدت نفسي في بيتي و لا شئ برأسي الا صورة باكيت الحمرا و هو يسقط من جيبه , لقد جرحت تلك الصورة ذاكرتي للابد , لا أعرف لماذا علقت تلك اللقطة بذاكرتي , لقد نسيت كل شئ و ارتبط كل شئ بباكيت الحمرا ,أذكر أن الشارع كان مليئا بالأحذية , أحذية كثيرة بأشكال و أحجام مختلفة , لكنها جميعا كانت بائسة , غادرتها الأقدام بسرعة , بعد أن كانت لبستها بهدوء و إصرار على السير باتجاه درعا المدينة لمؤازرتها بعد مجزرة المسجد العمري .ما زالت أصوات الأستغاثة و البكاء المجنون في رأسي .شئ ما كان يخبرني أني تحدثت مع ذلك الشاب , كنت موقن بأنني وعدته بأن أخذ بثأره , وأصبح هذا الوعد محور حياتي…..
بعد ذلك انفصلت الوجوه عن الأصوات ,و الأصوات أصبحت كالصدى بعيدة , تمر بجانبي كأنها لا تعنيني ,كل الأحداث لم تعد تعنيني , أصبحت كالمراقب البعيد لأحداث حياتي , لم يعد لدي القدرة على التفاعل مع الناس و الاحداث.
كنت حريصا على نبتة الحقد التي تفجرت في صدري في تلك اللحظة , و أخذت أغذيها كل يوم و أنميها , كنت ,حريصا ألّا أسمع أو أشاهد شيئا يعكر صفو حقدي , كنت أغذيه و كان يغذيني , لذلك إبتعدت عن كل الأصدقاء
خصوصا العقلاء منهم , و أطفأت جهاز التلفاز , و صرت أراقب طفلتي الصغيرة كل يوم لساعات طويلة ,
لم أكن أعرف ماذا أنتظر , كانت بندقيتي جاهزة , و في كل يوم أجلس وحيدا بعد
أن ينام الجيمع و أحصي الطلقات و أضعها في فمي في كل مرة قبل ان أعبئها في مكانها , كانت تلك عادتي الشهيرة اثناء خدمتي العسكرية , لم اخطئ هدفا في حياتي, كنت ألحس الطلقات قبل ان
أعبئها كانت تلك عادتي التي تذكرتها فجأة بعد هذه السنين ,
كنت أخاف ان يخذلني حقدي, كنت بانتظار اللحظة المناسبة ,اشتريت باكيت حمرا قصيرة و وضعته في جيبي مع أنني لا أدخنه ,كان رفيقي الدائم …….
لم يعرف قلبي و لا حتى عقلي التردد , لكنني كنت بانتظار أشارة ما , و في تلك الجمعة جائتني تلك الاشارة عندما ايقظتني ابنتي الصغيرة و هي تحمل باكيت الحمرا , شعرت أنها تخبرني أن الوقت قد حان , شئ ما أخبرني أن هذه هي اللحظة التي كنت أنتظرها …..
كنت متمددا هناك بوضيعة الرامي منبطحا التي أتقنها كثيرا , كنا خمسة شباب في هذه النقطة , و كنا في منطقة تكشف تجمع رجالات الأمن والشبيحة بوضوح , لا أستطيع تمييز الوجوه من هنا لكنني أستطيع تمييز حركات الجسد التي أستطيع القول أنني خبير بها ,
لا بد أن هناك شيئا ما في هيئتي أو في عيوني جعل رفاقي الذين أراهم للمرة الأولى اليوم , يقدمونني عليهم و يعاملوني كزعيم , وزعتهم في المنطقة بخبرة و اتخذت مكاني , و وضعت باكيت الحمرا امامي
و بدأت أبحث عن القاتل , بندقيتي في وضعية الرمي دراكا ,
كيف سأميزه , كنت واثقا اني ساعرفه فور رؤيتي له , لكنني لم اشاهده في حياتي لقد كان اطلاق النار عشوائيا ,كان المشهد يومئذ اشبه بقيامة كبرى , و انا خرجت من بيتي الذي وقعت المجزرة امامه فجأة , و في لحظة كنت في وسط المجزرة والجثث و الجرحى و الصيحات الضائعة في الفراغ و صوت الرصاص الذي كان قريبا جدا ,
كنت اراهم كل يوم في طريقي للعمل و اتمعن في وجوههم و ضحكاتهم و عيونهم التي لا ترحم احدا , لهم عيون تشبه بنادقهم , يستطيع احدهم جرحك بنظراته ,ثم يجهز عليك بطلقة , و كأن شيئا لم يحدث , كنت ارى في تجمعهم قريبا من بيتي انتهاكا لحياتي و حياة عائلتي , كنت ارتجف لحظة خروجي من المنزل برفقة زوجتي , كانت المسافة التي يجب ان اقطعها من امامهم لا تقاس بالزمن او بالخطوات , انما بدقات القلب ,و عدد الوجوه التي اتخيل انني اهشمها و عدد العيون التي اتخيل انني اقتلعا من محاجرها ,
لقمت البندقية و اخذت ابحث بينهم …
أنه ذلك الضابط الذي يعطي التعليمات و يوزع جنوده و يطبطب على ظهورهم …..
إنه ذلك الجندي الذي يمزح مع رفاقه بخبث , في هذه اللحظة ,لحظة الاستعداد للقتل , إنهم ليسوا هناك لتفريق المظاهرة , إنهم هناك كي يقتلوا , كان هذا واضحا من حركات أجسادهم……
وصلت سيارة مسرعة و نزل منها أحدهم ,شعرت بغروره يلامس وجهي , شعرت في حركاته بعدد الذين قتلهم , كنت أتخيل ضحاياه , عانق ثلاثة من الموجودين , كان واضحا أن لديه اعتبار ما …
ذلك الشاب الجالس وحيدا و الذي حياه الجميع و تحدث بعضهم إليه , كان واضحا انه مميز بينهم,
ذلك الجندي الذي يتفحص اسلحة أصدقائه و يتاكد منها …….
لقد حفظتهم جميعا , لن يغيبوا عن عيني ,و بعد ساعة من الأن سيكونون في الجحيم …..
خلال ساعة جلست أراقبهم و أراقب المكان المحيط بهم, كان من المهم لي أن لا أضيع أحدهم , لقد شعرت أنني بينهم و حفظت حركاتهم , شعرت أن نجاة أحدهم ستقتلني ……….
لقد أرديتهم جميعا ………….
لا أعرف كيف أنتهت اللحظة و كيف انسحبنا ……
عندما كنت اداعب ابنتي في البيت , شعرت أنني ما زلت في تلك النقطة , في وضعية الإنبطاح و التأهب للثأر , شعرت انني علقت هناك للأبد………. لقد علقت هناك للأبد مع باكيت الحمرا القصيرة.
تعليق واحد
رااااااااااااااااااااااااااااائعة بحجم روعة روحك