إعداد: غالية مردم بك
————–
شكري القوتلي، بطل من أبطال التحرر في العالم العربي، وقائد حركة المقاومة ضد الاستعمار في سوريا. لم يوهن ظلام المعتقل يوماً من عزيمته، ولم توقف حبال المشنقة التي لاحت أمام ناظريه ثلاث مرات نضاله وكفاحه في سبيل استقلال سوريا، وكان له دور بارز في تأسيس جامعة الدول العربية.
تولى القوتلي رئاسة سوريا مرتين، المرة الأولى كانت في آب 1943 (حتى 1949) حينما انتُخب رئيساً للجمهورية بالإجماع، والمرة الثانية في أيلول 1955 عندما طُلب من القوتلي أن يرشح نفسه لرئاسة الجمهورية، لكنه اعتذر للشعب، إلا أن النواب تمسكوا بترشيحه، وتم اقتراع سري على منصب رئيس الجمهورية في مجلس النواب فاز فيه القوتلي بنحو ثلثي الأصوات. ليكون أول زعيم وطني تولى رئاسة الجمهورية السورية بناء على انتخابات ديمقراطية إلى أن تنازل للرئيس جمال عبد الناصر عن الرئاسة عند قيام الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958.
عرف عن الرئيس القوتلي أنه كريم اليد، سمح النفس، عالي الهمة، شديد المراس في الدفاع عن حرية وطنه وعن الحق وعن الدستور وعندما أصبح رئيساً للجمهورية ظل بابه مفتوحاً أمام كل طارق.
لم يكن شكري القوتلي رجل دولة ناجح فحسب بل كان زوجاً محباً ورب أسرة عطوف، كان يعتني بأبنائه الخمسة (هدى – هناء – حسان – هالة – محمود) على السواء، وتذكر ابنته السيدة هالة القوتلي (صغرى البنات ورابعة الأولاد) أنه كان فخوراً بها كفنانة تشكيلية حتى أنه كان ينتظرها كل يوم على باب الجامعة، وكان يحرص على مراسلتها عندما كانت في روما فكان يرسل لها رسالتين أسبوعياً، وإن كانت الرسالة لا تتجاوز السطرين.
كما كان القوتلي ولداً باراً فقد كان مثابراً على زيارة والدته (السيدة ناجية بنت محمد عطا القدسي) بشكل يومي، حتى أنها لم تُصدّق يوماً حجة غيابه بداعي السفر عندما كان مسجوناً بعد الانقلاب عليه، ومما يثير الشجن في القلب أنها توفيت وهو ما يزال في السجن فلم يودعها ولم يعلم بوفاتها إلا بعد خروجه.
وفي حديث لابنته السيدة هالة القوتلي تقول: “وعيت على أبي أيام الاحتلال الفرنسي لدمشق، وأذكر أنني كنت عند عمتي وأنا في عمر أربع أو خمس سنوات، عندما أُحرقت دمشق، فصرت أبكي، حتى جاء من أخذني إلى بيتنا، وهناك صحوت على والدي يصرخ وهو في فراش مرضه أمام الجنرالات الفرنسيين (لن أوقع على معاهدة تأتي بالذل لوطني وشعبي، ولو قُطعت يدي، وعُلّق أولادي أمامي على المشانق). وحينها أدركت أنه شخصية مختلفة عن الآخرين”.
أما قصة زواج الرئيس شكري القوتلي فهي قصة مميزة تحمل عبق الثورة بين حناياها، حيث كان لقاؤه الأول مع زوجته (السيدة بهيرة الدالاتي) في السجن عندما كانت طفلة تزور والدها السجين. فالتقاها القوتلي ولاعبها وما كان يخطر له يومها أنها ستكون زوجته في المستقبل فقد كان يكبرها بثمانية عشر عاماً. بعد ذلك نُفي والدها إلى الأناضول وذهبت أسرته معه، وسرعان ما عادوا إلى الوطن بعد وفاته. عندما خطبها الرئيس القوتلي كان منفياً ومحكوماً بالإعدام، وكانت إذا ما سُئلت عنه تقول بفخر “يعمل في الثورة السورية”. لم يستطع القوتلي أن يتزوجها في سورية، فاصطحبها بعض الأقارب إلى مصر ليتزوجها هناك.
وعن شؤونه المادية تقول ابنته: “لم يتقاضَ والدي أي راتب من الدولة، بل كان يصرف عليها من جيبه الخاص، ويستعمل سيارته الخاصة، فقد ورث عن والده أراضٍ زراعية، ثم ورث عن أخيه أراضٍ أخرى. وكنا نسكن في بيوت مستأجرة، ولم يعمر بيت جدتي إلا بعد أن أصبح في الخمسين. وكان أحيانا يستدين من البنك العربي، ويصرف على الدولة. وعندما أُمّم البنك فيما بعد، وضعته الحكومة أمام خيارين: إما أن يفي الديون، وإما أن يبيع أملاكه في المزاد العلني، فاضطر إلى بيع بيت والدته ليفي ديونه. وكان إذا قيل له: ماذا ستترك لأولادك؟ يجيب: يكفيهم اسمي فقط”.
وتتابع: “عندما تسلّم والدي الحكم كانت خزينة الدولة فارغة، والعسكر من دون لباس، فأطلق (أسبوع التسلّح) الذي تبرع فيه الناس بالأساور والأقراط الذهبية، فاشترى طائرات لسوريا، وجاء بخبراء ألمان ليحصّنوا الجبهة مع اسرائيل، وعمل على إصدار بطاقات خاصة للفقراء تتيح لهم الحصول على إعانات في المشافي والمدارس”.
وفي هذا السياق يقول الكاتب عبد الله فكري الخاني في كتابه (جهاد شكري القوتلي) أن الرئيس القوتلي كان قد ورث عن أخيه ثروة طائلة، فما كان منه إلا أن باع ثروته وثروة أخيه التي ورثها لتساوي ثلاث جِرار مليئة بالذهب ليتبرع بها جميعاً، حيث أعطى جرتين من الذهب للثورة السورية ضد الاحتلال الفرنسي، وتبرع بالجرة الثالثة لصالح الشعب الفلسطيني بعد أن دخل وعد بلفور حيز التنفيذ.
عندما تنازل الرئيس شكري القوتلي عن الرئاسة للرئيس جمال عبد الناصر عام 1958، كان لا يملك سوى منزله الكائن في منطقة بستان الرئيس في الجسر الأبيض بدمشق والمؤلف من طابقين الأول لاستقبال الضيوف والثاني لأسرته، والذي زاره أحد الصحفيين من جريدة (الإثنين والدنيا) بتاريخ 23 كانون الثاني 1959 وكتب مقالاً حوله تحت عنوان “هنا يعيش المواطن العربي الأول شكري القوتلي”.
يصف هذا المقال بيت الرئيس القوتلي على أنه “بيت صغير بسيط لا يميزه عن غيره من البيوت المحيطة به سوى عسكري من الحراسة (الديدبان)، وهو مؤلف من طابقين وتحيط به حديقة صغيرة. وفي الطابق الأول يستقبل القوتلي زواره العاديين، في غرفة استقبال صغيرة إلى يمين الداخل. بسيطة الأثاث، ويلفت نظر من يدخل هذه الغرفة أربعة إطارات معلقة على حوائطها، الأول يضم كلمة صاحب البيت الوطنية المأثورة التي كان يذكي بها حماس الوطنيين المجاهدين خلال أيام الجهاد والكفاح: [ما استعصت الحرية على من وطد العزم على نيلها]. والإطار الثاني يتضمن الآية الكريمة [ولسوف يعطيك ربك فترضى]. واللوحة الثالثة تتضمن سورة الإخلاص مكتوبة على هيئة بهو أعمدة الجامع الأموي، واللوحة الرابعة لمشهد من آثار تدمر.
أما خاصة زوار القوتلي فيستقبلهم في غرفة مكتبه المواجهة لغرفة الاستقبال الصغيرة، ومكتب الرئيس القوتلي صغير بسيط في الركن الأيسر للداخل، وأمامه مكتبته ومقعدان من الجلد، وإلى جانب الحائط الأيمن مكتبة تضم كتب الاستعمال اليومي التي يحتاجها صاحبها، وفوق هذه المكتبة صورة للرئيس جمال عبد الناصر وإلى يمينها صورة (نهرو) زعيم الهند، وإلى يسارها صورة (رجندرا برساد) رئيس جمهورية الهند. وفي الركن المجاور للمكتبة بعض الأوسمة والنياشين المهداة إليه، ولافتة مكتوب عليها [إنا عائدون] من جماعة إنقاذ فلسطين.
أما الضيوف الكبار الذين يزورون القوتلي فيستقبلهم في الصالون الكبير الذي يجده الداخل في مواجهته بعد أن يدخل من الباب الخارجي”.
كان القوتلي يقضي يومه بين استقبال زواره، وبين كتابة مذكراته في غرفة مكتبه، أو قضاء لحظات استجمام وتأمل في الشرفة، أو العناية بأشجار وشجيرات الحديقة الصغيرة. ويحرص القوتلي على أن يخرج للتريض بعد ظهر كل يوم ساعة أو ساعتين.
غادر القوتلي إلى بيروت في 1964 ليمضي بقية أيامه في دار مستأجرة هناك، حتى توفي بنزيف حاد بعد نكسة 1967.
تقول ابنته: “عندما حملنا نعشه لندفنه في دمشق، مَنَعت السلطات آنذاك سكان المحافظات السورية من الحضور إليها كي لا يشاركوا في التشييع، فزحف سكان دمشق فقط إلى الحدود، حيث أبقتنا السلطات نحو أربع ساعات إلى أن سمحت لنا بالدخول، وكان خلالها الناس يوزعون على بعضهم بعضاً الأطعمة والمشروبات مجاناً على روحه. ولما وصلنا إلى دمشق ظل النعش محمولاً على أصابع الناس، وهو يطوف كل أحيائها، حتى وصل إلى الجامع الأموي حيث صلوا عليه ثلاث مرات، وعند العودة إلى بيروت لم نستطع تجاوز الحدود إلا بعد ساعات من الانتظار الطويل و القاسي. وعندما مُنعنا من إقامة حفل سنوي على وفاته أقمت له في بيروت معرضاً فنياً بعنوان (تاريخ أمة في حياة رجل) خلدتُ فيه كل اللحظات التاريخية المهمة والمؤثرة في حياته”.
نعم إنه لفرق كبير جداً بين رئيسٍ صاحِبِ ثروة طائلة يستلم حكم البلاد فلا يغادرها إلا وهو فقير قد تبرع بكل ما يملك من أجل الشعب والوطن، وبين رئيسٍ لا يملك شيئاً سرق شعبه وبلده فأصبح هو وعائلته وأصحابه من ذوي المليارات. نعم إنه لفرق شاسع بين رئيسٍ تنازل عن رئاسته في سبيل مصلحة شعبه ووطنه وحلمه بالوحدة وبين رئيس آخر يطالبه شعبه بالتنازل عن الحكم فيتشبث بكرسيّه ويقتل من يعارضه ويدمر بلده في سبيل بقائه.