دلير يوسف
بيروتُ تفتحُ ذارعها لمن طلب، إلا لنا، نحن السوريون الجدد. في شارع الحمرا ترانا متسكعين، نجلس في المقاهي والبارات لساعات طويلة؛ نراقب ونتحدث دون أن نكون جزءاً من هذه المدينة. أو ترانا على الأرصفة نبيع الورود عسى أن نلقى حبيبين يشفقان علينا فيبتاعوا وردة منّا.
بيروت، مدينة التفاصيل، عصيّة هي علينا، نحن اللاجئون هنا. نفترش أرض الميناء وأرصفة المدينة، وقد تجدنا، أو بالتأكيد ستجدنا، تحت الجسور، نبحث عن عملٍ ما. نعلم بأنّنا سنُستغل، وسنرضى بأجور زهيدة عسانا نروي ظمأ طفلٍ قد وُلِد للتو.
بيروت، مدينة اللجوء، تحتضنهم كلّهم إلاّنا. ابحث عنّا هناك في مواطن اللجوء الفلسطينية، سترانا حتماً. هناك في صبرا وشاتيلا، في برج البراجنة وفي الداعوق وسعيد غواش وغيرها من مناطق الفقر والتشرد واللجوء. نحن هناك، لن تبحث عنّا طويلاً لتجدنا. هناك من يحتضننا، بعد أن تهنا في البلاد، وجدنا لاجئاً هناك يقبل بنا لاجئين في بيته، نستعمل أدواته، ننام في فراشه، وترى أطفالنا يلعبون بالألعاب النارية سويّة. لا مكان للاجئ هنا إلا بيت اللاجئ.
بيروت، مدينة العمل ومنظمات المجتمع المدني التي تساعد كلّ الناس، باستثناء السوري. ولا تكتفي بذلك، بل تحاربنا إن أردنا مساعدة بعضنا، فما إن بدأنا العمل حتى رأيتهم يتهافتون علينا بغيّة سرقة عملنا، بيروتُ مدينةٌ سارقة. ويالحظي السعيد، فأنا ما زلت هنا، ولم أُسرق ولم أتعرى بعد.
بيروت، مدينة الحريّة. حريّةٌ لكلّ الناس إلا لمن طلبها من السوريين. فهنا وإن خرجنا، ولن نخرج إلا نادراً خوفاً من عقاب بعض الفرقاء، سترى الجيش يحيط بنا ليحمينا فيخيفنا، وترى أحد الفرقاء يهجم علينا، وكأنّ الاستبداد لحق بنا من الشام إلى بيروت، كيف لا وهما مدينتان عاشتا الظلم عينه. هنا لن تستطيع رفع علمٍ الثورة إلا في مناطق معينة، وفي مناطق أُخرى ستغلق نافذة غرفتك لترفع علمك خوفاً من جارٍ قد يشي بك إلى إحدى العائلات فيخطفونك، ولن يسأل عنك حينها أحد، لا جيشٌ ولا حتى أحدٌ من أخوتك، فأنت الآن من المحسوبين على شهداء الوطن، أو تكاد.
بيروت، مدينة الجمال، يراها من يشاء إلا نحن. لم نلق في هذا الجمال إلا العذاب فكان الوجه الآخر منه نصيبنا. الشوارع الضيقة، الطين، غلاء المعيشة، الكهرباء والماء غير الموجودين، مواصلات لا تعيننا، ومقص طائفي نحن ننام بين حديّه، وخطف ينال منّا في أماكن سكننا.
بيروت وجهة السوري متى شاء، حتى في الحرب الأهليّة، إلا الآن، فهي وجهة من شاء سوانا. فلا صيف نتقي فيه حرارة شمسٍ ولا شتاء يبعث لنا برسائل خريفيّة الآن.
بيروت كانت قبلتنا. بيروت كانت وجهتنا. بيروت كانت بيروت.