—————–
درسنا الطب معا في جامعة تشرين لمدة ست سنوات لتفرقنا السنون بعدها كل في طريق إلا أنني كنت أتابع أخباره البعيدة من حين لآخر من خلال صديق مشترك .
تزوج صديقي باكرا ورزق بأبناء
سافركلانا وتركنا البلد طلباً للرزق وبعد ما يزيد عن 10 سنوات التقينا صدفةً في مدينة من مدن الاغتراب يعيش فيها كثير من أبناء وطني .
لم يتغير كثيرا لا زال يميل للبدانة قليلاً و لا يطيل شعر رأسه أبداً ويلبس نفس النظارات الطبية وحتى مزاحه عندما تبادلنا العناق لم يتغير وإن كان فيه مسحة تحفظ استدركها لاحقا .
على باب أحد الاسواق التقينا تبادلنا حديثاً أحسبه استمر لساعة تقريباً .
هل تعرفون لقدكانت سعادتي غامرة فأن ألتقي بصديق من أصدقاء الجامعة في إحدى بلدان الاغتراب بعد أكثر من 10 سنوات هي أفضل هدية لذلك العام .
عرفت بعدها من حديثنا أن أقل من 4كيلومترات تفصل بين منزلينا في تلك المدينة .
كانت الثورة السورية قد دخلت شهرها الثالث وكانت قوات النظام من طائفتي تجتاح مدينة صديقي وقراها تعتقل شبابها وتعمل فيها صنوفا من القتل والتخريب .
كان الحديث في هذا الشأن يحمل الكثير من الشك والخطر ولا يمكن أن يستمر بدون مجازفة رغم أننا كنا نعرف بعضنا منذ مدة طويلة .
لم يلبث صديقي أن استكمل تحفظه وتبادلنا أرقام الهواتف إلى لقاء قريب لم يتحقق حتى تاريخ كتابة هذه السطور .
بعد ما يزيد على أسبوع من لقاءنا المفاجى فكرت أن أزوره مساءا وهممت إلى هاتفي المحمول أطلب رقمه
يرن الهاتف عدة مرات بلا مجيب
اعتقدت وقتها أنه مشغول أو أن وضعه لا يسمح له بأن يتلقى مكالمتى الآن .
ولكن الموقف تكرر خلال الأيام اللاحقة
لم يكن الموقف غامضاً جدا لفهم ما يجري
صديقي لايريد مقابلتي
فبعدأكثر من 10 سنوات من البعد لم نعد حقاً نعرف بعضنا ولا يمكن الجزم بما تضمره النفوس .
لم يكن الفاصل الزمني هو العامل الوحيد فقط ولا البعد بين مدينتينا والذي لا يزيد عن 100 كلم ولكنه الخوف والغضب
لم نسأ ل بعضنا يوماً عن طوائفنا ليس لأنها معلومة تبعاً لانتماءاتنا الجغرافية بل لأننا لم نكن نشعر بأنها مهمة حقا .
وبين مدينتينا وطائفتينا كان تاريخ طويل من الخوف والغضب والدماء .
كنا لازلنا نلعب في قرانا عندما قرر بعض السوريون أنهم يملكون وحدهم الحقيقة المطلقة وأنهم يملكون كل الأسماء
يعطون لكل شيء في الوطن اسمه وصفته .
كنالا نزا ل صغاراً عندما ضل بعض السوريين وملء الغرور والجهل قلوبهم قبل عقولهم فصاروا يفصلون وطنا على مقاسهم يعيدون فيه كتابة الأسماء جميعها
أما من لا يعجبه اسمه فله أن يترك هذا الوطن لوطن بديل وأما من تساوره نفسه الآثمة أن يعطي لنفسه اسماً فذلك من الكبائر وعقوبته القتل المؤبد في سراديب وأقبية الخوف والظلم .
ماذا أقول فلقد لخص السيد المسيح القول
” الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون ”
كبرنا ورغم أننا لم نشهد تلك الفصول الدامية من تاريخ وطني ولكنني لا أعرف كيف كانت هذه الفصول تنتقل لتحفر ذواكرنا وتقولب حياتنا وأفعالنا .
لعلها عدوى ! هل ينتقل الخوف بالعدوى ؟
لم أدرس هذا في كلية الطب ولم اقرأ عنه
عدوى الخوف تنتقل عبر الأجيال
لربما أدرس هذا الأمر بشكل مفصل لاحقا …
انتابني حزن عميق
فصديقي الذي يرفض مقابلتي لا تجمعنا إلا ذكريات جميلة معاً
فكيف له أن يفعل ذلك ؟
في عيد الأضحى جائتني رسالته على هاتفي
كانت مقتضبة لا تزال تحمل تحفظاً ولكنني قرأت فيها نفحة اعتذار
أجبت بنفس الطريقة المقتضبة بكل عام وأنتم والعائلة بخير .
لم يكن لكل رسالتينا أي وعد بلقاء قريب تماماً
كما لم يكن وقتها أي وعد لوطني بربيع قريب .
لا تعتذر يا صديقي
فأنت لم تخطئ أبداً
وأنا لن أقبل أن تقف أمامي بخجل
فأنت فعلت بالضبط ما يجب أن يقوم به كل أب
في هذا الزمن المجنون
يجب عليك أن تحمي عائلتك وأطفالك من القتلة
وأنا لا أستطيع إلا أن أقف احتراماً لحرصك عليهم
وهذه هي مهمتك المقدسة في هذه الحياة
فبعض شك بي يمكن تعويضه
أما أن تفقد أحد من أهلك فذلك ما لا يمكن تعويضه .
سينتهي هذا الكابوس الأسود ولوبعد حين وسوف نلتقي من جديد هناك فوق تراب الوطن
سأحمل أطفالك ونمشي في طرقات قريتي الجميلة
سأقول لهم هنا عاش ملايين السوريين منذ عشرة آلاف عام
وسوف نستمر بالعيش هنا كسوريين حتى القيامه
سنعود معا طبيبين إلى الوطن لنداوي بعض أبناءه
سنعود إلى جامعتنا معا لنتذكر بعض اللحظات
وهنا سأقول لبعض السوريين
كفى عبثا سأستعيد صديقي
كفى عبثا سأستعيد وطني