ثمّة بداهات لا نحكيها , ربما تكرمةً لها عن العلن أو لأنّها ظهرت حدّ أن تكون في مستوى خفيّ عن ظلال الكهف , كسرّ الأزل في استدارة النون لدى تأمّل الصوفيّ للأسماء .
مثل أنّ هؤلاء الذين يقرؤون الكتب يحتاجون أن يأكلوا الخبز
و مثل أنّ المنقّبة التي تمرّ مطرقة الرأس كلّ صباح تحتاج أيضاً إلى وردةٍ حمراء تخفيها في كتاب التلاوة
و مثل أنّ رجفة شفتيكِ الخفيفة لدى ذكر اسمي كانت واضحةً جدّاً للجميع رغم تغييرهم الموضوع ببراعة و لامبالاة ظاهرة
و مثل أنّ الأمّ تشعر كلّ جمعةٍ بغصّة في القلب لقِلّة ما أكل ابنُها الشهيد من الغداء
و مثل أنّ القهوة تغيّر لونُها بعد نشرة الأخبار
و مثل أنّ القمر اختفى دون سترِ الغيم لمّا وصل الأب بربطة الخبزِ إلى ساحةِ القنّاص الجديد
و مثل أنّ هذا الذي في الصدر ليس حزناً و إنّما كرةً ثقيلةً من الاختناق
و مثل أنّ دمعتها التي سال معها قلبك للمرّة الأولى من الجزع كانت قد سالت قبل ألف مرّة ..
و مثل أنّ آخر ما قد يخطر ببالِ المعتقل ساعة تعذيب شهواتِه بتيّارٍ صاعقٍ من الكهرباء هو الاستدارة في نهد الحور العين ..
ثمّة بداهاتٌ لا نحكيها , تسيل عفواً مع نشيج المزاريب و ساقيات المدن المهدّمة , و تبدو كبكاء طفل وحيدٍ في السوق , أو كضحكة طفلةٍ وقعت على عشب طريّ أو كوقارِ شيخٍ ينتظر موته الأخير
مثل أنّ جدار الغرفةِ يعرفكِ أيضاً و يتتبّع مزاجك في ضربات قبضتي الغاضبة التي تؤول دوماً إلى ندم العظام
و مثل أنّ الهواء المتدفّق هرباً من قبضة الجبال إلى شبّاكي الرحب يتوقّف فجأةً حين تظهر صورة شهيدٍ صنعت خطوط وجهِه تحوّلات القتال الطويل
و مثل أنّ خصرها لو لم يكن محسوم المآل إلى يدٍ غريبة , لربما ما استتمّت بقلبك مراسم الشغف المهووس به … و لما انعقدت كآبةُ أرقك المستمرّ على انعطافته الحزينة , دوماً ما ارتضيتَ أن تقيم على قارعة سبل الغايات تندب ثقةَ العابرين
و مثل أنّ المطر فيضُ ما لم نسطِعْه من العبرات
و مثل أنّ ريان لو عاشت و قُدّر لك أن تلقاها و تحاول ملاعبتها لنفرتْ منك فوراً لفشلك المستمرّ في إلف الطفولة
و مثل أنّ صفير الهام على ذكريات الحجارة المنتزعة من هدأة البيت بعد ضجّة قصفٍ سريع , تنافس الهامَ لدى قبور سكّانه الراحلين على صدق الشجى الليليّ وبحّة الحنين إلى العدالة ..
و مثل أنّك لم تفقد مهارة تمييز أرضِ أهلِك و بيوتهم من لونِ الشمس قبل قراءة عنوان اليوتيوب
و مثل أنّك تصغي كلّ أرقٍ إلى آخر الليل لا لتسمع تنزّل الملكوت … و إنّما لتسمع نفسَك
و مثل أنّ الضحكة الأخيرة لرفيقي كتيبة قبل التفرّق نحو صدّ الاقتحام مليئة ببكاء مفجوع لا يفهمه سوى كيس الأشلاء
ثمّة بداهاتٌ لا نحكيها , نكتفي بما يكتفي به الورق الساكت عمّا فيه من قلق الأحرف و تحالف الكلمات , ثمّة حزن لا يحتاجُ شرحاً في يد العجوز الشريدة التي لم تبع قسطَها من الخبز في سوق المدينة , و في التماع القصف عتمةٌ لن تفهمها مقاييس الفوتون ولكن تفهمها عنقُ الطفل التي أضحت وحيدة …
مثل أنّ حرصك على الفجر اعتراف بالليل الموحش و اللذيذ في ذاتك الوحيدة
و مثل أنّ توزّع صورتك في مرايا كثيرة يشتّتك بزهوِه عن ضرورة زوايا الانكسار .. ليفتّتك الجمود بعدها عند أوّل انعطافة في اختبار الضوء لك
و مثل أنّ المرآة التي انكسرتْ من عجزِ حيلتِها عن إقناعك بانعكاسك فيها أحبّ إليك من المرآة التي استكانت واثقةً إلى أنّك أصبحتَ أسيرَ الإطار الهشّ
و مثل أنّ المرآة التي تشتدّ فيها أوتارُ الضوء من الأنين الناعم للصدفة التي فشلت في ترتيبك … تغيض فيها عميقاً , على عكس المرايا التي يحطمها غيظٌ لم تكبته حكمةُ التلميح
و مثل أنّ المجاز كاشفٌ لما هو أعمق ممّا تخافه الحروف الواضحة
و مثل أنّ الغيمة إن لم تفهم جماليّة بعثِها للكامن في التباسها بالسماء , تتركك إلى العُري و تنزاح نحو الشمس
و مثل أنّ القدم المتروكة وحدها أمام حاجزٍ شرسٍ قد ركلت في سكتتِها رؤوساً كثيرة
و مثل أنّ الندبة المخبأة تحت الإبط لفتاةٍ عادت من اغتصابٍ عابر تركتْ فجوةً ما زالت تتسع في السماء
و مثل أنّ الهاجس الوحيد الصريح للهذيان هو نصيحته الخائفة من الانكشاف : اسكتْ .