صبر درويش – دمشق
تنهض سلام بعد أن تنهي الحديث معنا، تلبس حذائها الرياضي، تضع الشال على وجهها، تبتسم عيناها بفرح طفولي، ترفع شارة النصر، وتقول: الآن إلى المظاهرة.
بدأت أولى المظاهرات في مدينة السلمية الواقعة إلى الشرق من مدينة حماه، في الخامس والعشرين من شهر آذار مارس من العام الأول للثورة؛ كان كل شيء مُفاجئ، بضع أفراد خرجوا على غفلة من الأجهزة الأمنية، تجمهروا في ساحة المدينة، وهتفوا للحرية لأول مرة منذ أربعة عقود.
للمدينة تاريخ عريق في العمل السياسي، فهنا تبلورت أهم القيادات السياسية لحزب البعث الحاكم مطلع النصف الثاني من القرن الماضي، وها هنا أيضاً تبلورت أهم القيادات المعارضة لهذا الحزب وحكمه.
وفي الوقت الذي قام فيه حافظ الأسد بتصفية رفاقه في الحزب بعد أن استولى على السلطة السياسية مطلع السبعينيات، أيضاً سيقوم بفرض حصار حاول من خلاله خنق مدينة السلمية وقتل روح التمرد فيها، فحكم عليها بالفقر والتهميش وزج بأغلب أبنائها من الناشطين السياسيين في المعتقلات.
تروي لنا هزار إحدى مثقفات المدينة، أنه في الخمسينيات من القرن الماضي، كانت المدينة تضج بالنشاط السياسي واللقاءات السياسية، فالمدينة تضم أغلب الوان الطيف السياسي الذي كان سائداً في حينه، وسكان المدينة اختاروا الانتماء السياسي على غيره من الانتماءات الدينية أو العائلية وسواها، وكان الوجه العلماني هو الوجه البارز للمدينة.
وبخلاف كل المدن السورية الأخرى، استطاعت مدينة السلمية إخراج مظاهرة حاشدة عام 2001، على إثر حصار مخيم جنين الفلسطيني، ورفعت خلالها الشعارات المطالبة بالحرية وإلغاء قانون الطوارئ.. إلخ؛ وكانت المظاهرة شيء مدهش –تقول هزار- فمنذ عقود لم نخرج إلى الشارع، في الحقيقة منذ استيلاء حكم البعث على السلطة.
وبخلاف كل المدن السورية الثائرة، لم يأخذ النشاط الثوري في المدينة بداية الثورة طابعاً شعبياً، كان نخبوياً بامتياز، ومن شارك في المظاهرات الأولى بات معروفاً بشكل جيد، فأغلبهم ممن كان ينتمي لتجارب سياسية سابقة، ومجملهم من المعارضين القدامى.
تقول زهراء، واحدة من أبرز الناشطات في المدينة: كانت المسألة شخصية في بداية الأمر بالنسبة لي، فقد شاركت في اعتصام وزارة الداخلية في العاصمة دمشق، المطالبة بالإفراج عن المعتقلين، وكان ابني في أثناء ذلك معتقلاً في سجون النظام، وعندما عدت إلى مدينتي، بعدها بعدة أيام، كنت أحمل في أعماقي غليان مدينة دمشق، وقررت الخروج مع بعض الأصدقاء في الخامس والعشرين من شهر مارس آذار العام الأول للثورة. لم يتجاوز عدد المتظاهرين في أثنائها البضعة أفراد، كان ابني في المعتقل وكنت أهتف بأعلى صوتي، كان كل شيء يختلط في أعماقي، كنت متأثرة جداً بما يجري في محافظة درعا، وكنت قلقة على مصير ابني، وكنت سعيدة في الوقت ذاته بملامح حرية باتت تلوح في الأفق؛ لقد تغير كل شيء فجأةً، وفجأةً تبخر الخوف من أعماقنا، كان الخروج في مظاهرة في تلك الأثناء يعد شيءً مثيرٌ حقاً. أذكر تماماً عندما وصلت إلى المنزل وكانت يداي تؤلمانني بسبب اعتداءات الأمن والشبيحة علينا بالضرب والسباب، في محاولتهم إجبارنا على العودة إلى منازلنا، ورغم كل ذلك كنت سعيدة بما أنجزناه، في الحقيقة كانت الصرخة الأولى في المدينة.
لن تتأخر المدينة كثيراً، بضعة أسابيع وستبدأ شرائح اجتماعية جديدة بالانضمام إلينا، كانت أعدادنا تتزايد باضطراد، ففي الجمعة الثانية للثورة وصل عددنا إلى حوالي المائتي شخص، كنت أنظر حولي وأشعر بالشغف، حينها بدأنا العمل السياسي الحقيقي، فرحنا نتباحث مع الأصدقاء حول كيفية تحريض الناس للمشاركة في المظاهرات، ونتناقش حول طبيعة الشعارات التي علينا رفعها، وقررنا في هذا السياق أن صمودنا في البقاء في الشارع والإصرار على المضي قدماً بما بدأناه، كفيل بتحريض الناس على المشاركة؛ وفعلاً ما هي إلا أسابيع قليلة حتى بدأت المشاركة بالاتساع ووصل عدد المتظاهرين إلى بضعة آلاف، كانت هتافاتهم تعانق السماء وكانت أقدامهم ترج الأرض، كان الشغف سائداً بين الجميع، وكنا مصرين على التمسك بسلمية ثورتنا، فحملنا الورود ووزعناها على المتظاهرين، وحتى على بعض رجال الأمن، نظمنا اعتصامات مسائية وحملنا الشموع، وغنينا للحرية وللأفق الذي راح ينفتح أمامنا؛ كان منزلي مفتوحاً للجميع والذي تحول مع الوقت إلى ورشة عمل حقيقية، يتم فيه كل شيء، كان العالم ينفتح أمامي وأنا المرأة الستينية، كنت مقتنعةً بأن التغيير قد بدأ، وأننا بصدد اختبار عالم مختلف.
اتسمت مظاهراتنا منذ البداية بطابع سلمي وإصلاحي بشكل عام، فتمحورت هتافاتنا حول المطالبة بالحريات العامة، وإلغاء قانون الطوارئ.. والإفراج عن المعتقلين.. إلخ، إلا أن أحداث شهر أيار من ذاك العام ستغير كل شيء.
في ذلك اليوم من شهر أيار، سنخرج إلى المظاهرات كالمعتاد، وسيحدث بعض الصدامات مع الشبيحة ورجال الأمن، إلا ان الأمور ستمر على خير، في المساء ستبدأ الأخبار بالتوافد إلينا من حماه المدينة الواقعة غرب مدينة السلمية على بعد بضعة كيلومترات، في ذلك اليوم المشؤوم سيرتكب النظام مجزرة مروعة في المدينة راح ضحيتها حوالي مائة وسبعين شخصاً، وهي المجزرة التي دعيت في أثنائه بمجزرة أطفال الحرية، كانت حماه مدينة منكوبة في تلك الأثناء، وعندما وصلت الأخبار إلينا، شعرنا بغضب عارم، خرج الشبان إلى الشوارع وبدأوا يطلبون من الأهالي التبرع بالدم، وما هي إلا ساعات قليلة حتى امتلأت الساحة بالناس دون تنسيق مسبق، وباشروا مظاهرتاً سيرفع فيها لأول مرة شعار إسقاط النظام، كانت المدينة تغلي، وكان الغضب سائداً، ذهب الشبان إلى حماه في ظروف غاية في الخطورة لإيصال أكياس الدم إلى المستشفيات؛ اذكر تماماً كيف أن المدينة لم تنم تلك الليلة، كان يسود جو من التكاتف الاجتماعي قل نظيره، كان الغضب أقوى من القمع، والإصرار هو اللغة السائدة بين الناس، ومنذ تلك اللحظة ستعم المظاهرات الشوارع، وستُخرج حماه حوالي نصف مليون متظاهر إلى الشوارع، بينما مدينة السلمية ستمتلئ شوارعها بآلاف المتظاهرين من رجال ونساء، مجتمعين جميعهم على مطلب الحرية.
عاشت مدينة السلمية أسوة بحماه بضعة أشهر من الحرية، إذ أفضى تنامي الحراك الشعبي إلى تحرر المدينة من قبضة الأمن، وكان ذلك فاتحةً لما بات يعرف فيما بعد بالمدن المحررة.
ألهمت حماه باقي المدن السورية حلم التحرير، بينما مدينة السلمية بحكم كونها مدينة محسوبة على الأقليات، ستوجه صفعة قوية لخطاب النظام الذي كان يزعم أنه يحمي الأقليات وان الثورة السورية ثورة إسلامية. فسلمية المدينة التي تقطنها واحدة من الأقليات الدينية في البلاد ستنتفض وتخرج آلاف المتظاهرين إلى الشوارع، والتي ستؤكد أن الثورة السورية ثورة شعبية وأن مطلبها هو الحرية لا اكثر ولكن ليس أقل.
شكلت حماه بكثافة مظاهراتها السلمية، ومدينة السلمية المحسوبة على الأقليات، شكلتا إحراجاً لنظام الأسد، فسارع هذا الأخير إلى حسم المسألة بشكل عنفي قل نظيره؛ فدك مدينة حماه بالمدافع بعد أن حاصرها من كل الجهات وذلك صباح الواحد والثلاثين من شهر تموز من العام الأول للثورة، وفرض سيطرته على المدينة بعد أن كان قد هدم بيوتها، واعتقل شبابها وأوقع عشرات الضحايا في صفوف أبنائها، بينما ستشن قوات الأمن حملة مداهمات واعتقالات واسعة في مدينة السلمية وسيتم اعتقال العشرات من الناشطين، وستقطع الطرقات بعشرات الحواجز الأمنية وسينتشر الشبيحة في الشوارع لإرهاب السكان وقمع ثورتهم، في هذه الأثناء ستبدأ المدينتان مرحلة جديدة من النضال ضد نظام الأسد الأمني.
تمخض عن كل هذه الأحداث تراجع كمي في الحركة الثورية في المدينة، فقل عدد المتظاهرين –تقول زهراء- وقلت المظاهرات نفسها، وعم التخوف سكان المدينة، إلا أن إصرارنا على إكمال ما بدأناه كان العامل الحاسم فيما يجري؛ فمن جهة قررنا الاستمرار بالتظاهر رغم قلة أعدادنا وخطر هجوم عصابات الأمن علينا، ومن جهة اخرى رحنا نفعل أشكال من النشاطات الثورية الأخرى، لقد كانت فرصة لنا كي ننعش نشاط سياسي كان غائباً، فتشكلت مجموعات سياسية جديدة، ونشطت الحوارات والسجالات في المدينة، وأقمنا المعارض، ونظمنا الاعتصامات، وكتبنا على جدران مدينتنا كل شعاراتنا، أرقنا أجهزة الأمن بكثرة المناشير والقصاصات المناهضة للنظام، وأثبتنا أننا مصرين على المضي في طريق يعلم الجميع مدى صعوبته، ولم يفلح النظام وأجهزته المخابراتية في قمعنا، فقد كان مارد الصحراء قد استيقظ في أعماقنا، نحن القابعين على حدود البادية نعلم تماماً ماذا يفعل الغضب عندما يشب في أعماقنا.