إن أكثر مايلفت الإنتباه في حديث الشارع لدى البعض و ليس الجميع هو النقد المباشر و الشتم لدول معينة وبنفس اللحظة إطلاق عبارات الغزل و المحبة لدول أخرى تصنفه على أنها صديقة، الغريب في الأمر وجود فهم لدى البعض بأن بعض الدول هي عبارة عن جمعيات خيرية تقدم ما تقدم مجاناً.
قبل أن نبدء بإلقاء الضوء على ثورات الربيع العربي و طريقة التعامل الدولي مع كل ثورة على حدا و أنا لن ادخل في تفاصيل الثورات جميعها و لو أني سأمر عليها مرورا سريعا بما يخدم الموضوع الأساسي و هو العلاقات الدولية و متغيراتها البراغماتية علينا هنا أن نأكد على ان لكل دولة مصالح قد تشترك أو تتعارض مع مصالح الأخرين و من حق كل دولة السعي وراء مصالحها، والنقطة الثانية و الهامة أن العلاقات الدولية لا تحمل طابع اخلاقي وهذا ما أراد الإشارة إليه رائد الدبلوماسية الأمريكية اليهودي هنري كسنجر المؤسس لرقعة الشطرنج الدولية الشمال أطلسية عندما قال: إن العمل الدبلوماسي ليس أبدا حملات تبشيرية، فإذن إتفقنا أن المصالح هي حجر الزاوية في كل تحرك و تصريح دبلوماسي و عسكري على إعتبار أن العمل العسكري المراد منه تثبيت الموقف الدبلوماسي.
الربيع العربي و المفاجئة:
لا يختلف إثنان بأن إنطلاقة الربيع العربي في تونس على يد البوعزيزي الذي أحرق نفسه بعد أن أحرقه الفساد و القهر في تونس كانت حادثة مفاجئة و مباغته ليس للغرب فقط و إنما حتى للمعارضين العرب في كل الدول حتى أن الصحف العبرية أعربت عن فشل مدير الموساد الجديد في عدم قدرته على التنبوء أو تحليل المعطيات بشكل صحيح عندما أعرب أن مصر ستكون بخير و من المستبعد خروج أي مظاهرات مناهضة لحكم مبارك فرعون مصر الأخير (و اتمنى أن يكون الأخير) حسني مبارك المصنف على أنه الصديق المميز لإسرائيل و حامي أمنها الجنوبي و الغربي و هذا ما نلاحظه لاحقا في تعليقات الصحف العبرية الحزينة على رؤية مبارك في قفص الإتهام، إن عامل المفاجئة إدى إلى أن تكون حركة المعارضين أبطئ من حركة الشارع أولا و إلى سرعة سقوط نظامي مبارك و زين العابدين و لايوجد اي مصلحة غربية لأي دولة صديقة أو عدوة في ولادة هذا الربيع العربي لأن العالم و الإستقرار و الامن العالمي مبني على قواعد أساسية تم حياكتها بعناية بعد الحرب العالمية الثانية ولا أحد يريد الخروج من الوضع الراهن نحو المجهول.
الغرب و الثورات العربية:
إن سرعة إستجابة الغرب للثورة التونسية و الطلب من الرئيس التونسي بالرحيل نتيجة لإعتبار أن تونس لا تشكل ورقة أساسية و هامة في المعادلان و موازين القوى العالمية مما يعني بأن إنتقال البلد إلى حلة ديمقراطية جديدة لا يشكل أي فارق مع مراعات بعض الملفات كالقاعدة و التطرف الديني و مسألة الهجرة الغير شرعية إلى أوروبا المنهكة إقتصادية في السنوات الأخيرة، في حين أن التعامل مع الازمة المصرية ولو كان مفاجئا و لكن كان من المفترض ظهور الولايات المتحدة الامريكية كراعي رسمي للتغيير و تنحي مبارك على الاقل لتمكين المجلس العسكري من إدارة البلاد و الحكومات اللاحقة بما يضمن حقوق و مصالح إسرائيل و هذا ما يفسره سرعة زيارة السيدة كلينتون للقاء الطنطاوي بعد تنحي مبارك مباشرة للتأكيد على السياسات المصرية الخارجية تجاه إسرائيل رغم قناعة الجميع بأن مصر اليوم ليست كمصر مبارك و هذا ما لاحظه الجميع من خلال المخاوف و التصريحات و الإعتذارات عن مقتل جنود مصريين على الحدود في سيناء وما تحمله قضية الغاز ومراقبة قناة السويس…إلخ. أما اليمن العزيزة فتشبه إلى حد ما قضية تونس مما يعني إمكانية تفويض القضية إلى المملكة العربية السعودية تحت غطاء مجلس التعاون الخليجي مع مراعات ملفات القاعدة و الممر البحري و القرصنة في المنطقة مع دعم بريطاني بحري كامل، في حين أن الثورة الليبية و التي أيضا فاجئت أصدقاء القذافي و تحولت إلى ثورة مسلحة دفعت الغرب الى التدخل العسكري لحماية مصالحهم السابقة (حيث كان الغرب يستورد 80% من النفط الليبي) و بالتالي لم يدخل الغرب للحصول على النفط و إنما للحفاظ على ماكانوا يحصلون عليه في عهد القذافي وهذه نقطة هامة على الجميع تسليط الضوء عليها مما يعني أن على المجلس الإنتقالي مراعاة مصالح ليبيا في عملية بناء علاقات دولية جيدة مع الغرب.
العالم و الأزمة في سوريا:
هنا يكمن ما نسميه (مربط الفرس) سوريا تعتبر حجر الزاوية الاساسي في قضايا و ملفات الشرق الاوسط والذي يعبر عنه هنري كسنجر بأنه أزمة العالم الحقيقية و سبب لخلق حرب عالمية ثالثة و ذلك لكثرة التداخلات الشائكة و المعقدة في قضاياه و ملفاته الساخنة و أهمها الوجود الاسرائيلي في فلسطين المحتله إضافة لقضايا أخرى، ليس خافياً على أحد أن سوريا استطاعت أن تكون المحرك الاساسي لاغلب القضايا في المنطقة من خلال امتلاكها لمفاتيح الملفات الاساسية كالقضية الكردية و الملف العراقي و العلاقات مع ايران و دعم حماس و دعم المقاومة …الخ، ولهذا ليس من مصلحة أحد (أقصد دول العالم وليس الشعوب) احداث اي تغيير في اي زاوية من زوايا سوريا بالرغ من من ان الغرب يصنف النظام السوري على انه نظام مشاكس لكثرة ما يسببه من عراقيل ولكن مع ذلك لامانع لدى الغرب من تقبل هذا الواقع بدلا من الدخول في المجهول، وهذا ما عبر عنه الموقف الاسرائيلي عندما قال رئيس الوزراء الاسرائيلي في سؤاله عن الازمة السورية بأن اي جواب سأعطيه لن يكون في مصلحة إسرائيل، إن لإيران مصالح و ممر ترغب في الحفاظ عليه يمتد من طهران إلى عمق الجنوب اللبناني على أبواب إسرائيل الشمالية، تركيا تريد ان تعيد الامجاد القديمة و أردوغان يريد دخول التاريخ من خلال علاقات دولية متينة بعد إنتهاءه من الملفات الداخلية الاساسية و أهمها الملف الأمني الكردي و البنية الاقتصادية و ملف حزب العدالة و التنمية صاحب الأغلبية الحالية، في حين أن الخليج و بقيادة سعودية يريد الحد من النفوذ الإيراني حفاظاً على مصالحه و أمنه في المنطقة و لأوروبا مصالح إقتصادية و عقود مختلفة منها عقود نفطية مع بريطانيا مثلا في حين أن الولايات المتحدة الامريكية لا تريد أن تتغير قواعد اللعبة السياسية و الأمنية ما قد يأثر سلبا على أمن إسرائيل و إستقرارها وخاصة في ظل سقوط مبارك و المصالحة الفلسطينية و قضية إعلان دولة فلسطينية، وبالتالي فإن كمية الدماء في سوريا كانت ولازالت هي السبب الرئيسي وراء التصريحات الصادرة عن دول لا تملك خيار أخر امام الراي العالمي وخاصة امام شعوبها التي تتوجه في كل دورة رئاسية لصناديق الاقتراع الا ان تظهر على الاقل بدور راعي الحريات و الانسانية التي كانت سببا في دخولها بحروب طويلة سابقة مما يعني وجود على الاقل ادانات او تصريحات حول ما يدور في سوريا، ولذلك نجد دائما من كل دولة تصريحا ساخنا ثم قيلولة تتراوح بين اسبوع أو إثنين، في حين أن الجامعه العربية و التي تمثل دول عربية قد سقطت حكوماتها او في طريق السقوط لا تملك اي خيار الصمت و خاصة ان ما يحرك الجامعه العربية حاليا هي الدول الخليجية التي كانت موقع اتهام منذ البداية من قبل بعض الشخصيات الرسمية بالوقوف خلف الاحتجاجات السورية و احاكة مؤامرة اعلامية تتبناها قناتي الجزيرة و العربية مع أن الغريب في ذلك أن القناتين المذكورتين تجاهلتا بضغط من الحكومات الخليجية الازمة السورية منذ 15 مارس و حتى 2 ابريل وذلك لحساسية العلاقات السورية القطرية المتينة و العلاقات السورية السعودية الحذرة و التي كانت في شبه جمود سابقا بعد حادثة إغتيال الحريري في حين أن قناة الـ بي بي سي البريطانية كانت المصدر الاخباري الوحيد تقريبا لأحداث سوريا و درعا تحديدا، فإذا كنا امام مؤامرة من هم يتآمر علينا و ما مصلحته طالما ان حتى اسرائيل لا تنام خوفا مما يحدث في سوريا، وإذا كانت مؤامرة فهل نحن أمام فشل إستخباراتي سوري لم يتمكن من تحديد المؤامرة و المتأمرين و المسلحين و الحد من تحركهم رغم وجود عدد من فروع الامن لا اعرف عددها فالبعض يقول 13 و اخرين 17 و الله أعلم، وأذا كنا أمام أزمة طائفية فهل بعد 5000 سنة من نشأة الحضارة السورية كما يقول التاريخ تذكرنا أن علينا ان نقتل جيراننا، انا لا انفي وجود تآمر على سوريا الحبيبة و لكن من قرائتكم لما أسلفت سابقا فإننا اصبحنا على يقين بان للجميع مصالحه و للجميع الحق في السعي وراء مصلحته، ولكن ليس هذا هو الاهم، إن الاهم الآن هو ما هي مصلحتنا كسوريا، كشعب سوري و كمواطنين، داخليا من مصلحة الجميع إيقاف حمام الدم و هذا الشعور بالخوف من متابعة الاخبار صباحا لنرى قتلى و دبابات و تشييع و تمثيل بالجثث و أعتقالات و خطف، من مصلحتنا أن ينتهي هذا العنف وتكون الكلمة و القلم والفكر هي الاداة الوحيدة في بناء الغد، من مصلحتنا الافراج عن كل المعتقلين السياسيين و الناشطين و المفكرين و الغيورين على وطنهم، من مصلحة الوطن أن نسمح لأي كاميرا بان تصور في سوريا طالما لا يوجد ما نخفيه عن الاعين و ان تعود دباباتنا الى الجبهة المقدسة و جيشنا الكريم الى ثكناته والبدء في عملية الإنتقال من دولة يحكمها حزب لم يتمكن من أرضاء رغباة الشعب و تطلعاته إلى دولة مدنية ديمقراطية تحافظ على حرية كل مواطن وكرامته، عنده فقط نستطيع بعد أن نرضي طموح المواطنين بأن نبدأ بالتوجه بعلاقات دولية صحيحة لنبني علاقات متينة مع النروج اذا كان هذه ما يريده الشعب أو نقطع علاقاتنا مع الدنمارك إذا كان هذا مايريده المواطن، فما السلطة التنفيذية و التشريعية إلا أداة في يد الشعب يحركها كيفما شاء و يأخذها أينما شاء فإذا كان العالم تحكمه المصالح، فالدول تحكمها شعوبها.
————————-
د. عبد الرحمن الدمشقي