إذا كان لديك وقت زائد أو بال طويل فادخل في نقاش مع أولئك الذين يرعدون ويزبدون ليقنعوك أن في البلد أو خارجها أيادٍ خفية تحرك الشباب “المغرر بهم” وأن المتظاهرين لا يعدون كونهم أناساً بلا هدف ولا عمل التقوا بالصدفة بأناس لديهم مال لا يعلمون كيف يتلفونه فاتفق الفريقان على أن يتظاهر الفريق الأول ويمول الفريق الثاني وطبعاً لا يعرف أي منهم ماذا يريد!!
ولأنني ممن يحبون أن يؤدوا إلى الناس حقوقهم سأسجل هنا أن أول من اخترع قصة حبوب الهلوسة في الثورات العربية هو من كان “عميد الزعماء العرب” و “ملك ملوك أفريقيا” و “أمير المؤمنين” وزعيم سلاحف النينجا … القائد الليبي معمر القذافي. كان ذلك في خطاب أشبه بالهلوسة حقاً، ألقاه على مسامعنا بعد اشتعال الثورة الليبية بفترة. وكان من الغريب بالنسبة لي أن أسمع التهمة نفسها تتردد على ألسنة بعض الناس في بلدي سوريا. قالت لي إحدى صديقاتي: “إنهم لا يعلمون ما يريدون! إنهم يتعاطون حبوباً ويتلقّون أجور خروجهم يومياً!!”
كانت محادثة على الهاتف فلزم أن أرد بأشد العبارات حذراً وأكثرها دبلوماسية إلا أن شيئاً في دمي كان يغلي غليان القدر على النار الملتهبة. قلت في نفسي سبحان الله!! لقد تاه شبابنا العربي والإسلامي سنيناً وأعواماً بين لهو ولغو وزخرف دنيا فما وجدنا هذه الأصابع تتجه إليهم وتتهمهم بالهلوسة. ولقد عاشت أمتنا عهود انحطاط وذل وتخلف فما رمى قادتنا أبناءها “بالخيانة” ولا “الجهل” ولا “التغرير”!!
فلماذا عندما نفضت العقول الفتية غبار الجهل وأزالت عن عيونها المتوقدة عصابة الغفلة وانطلقت تطلب العيش الكريم في أوطانها، لماذا عندها فقط انبرت ألسنة الاتهام اللاذع لتلحق بأبطال ثوراتنا أبشع الألقاب؟ ولماذا أصبح طلب الحقوق خيانة؟ وعشق الحرية “عمالة”؟ والوقوف في وجه الظلم عمل “حثالة” قد “غُرِّر” بهم؟
لماذا يقال عن شعوبنا إنهم لا يعرفون ماذا يريدون وهم لأول مرة يصدحون بملء حناجرهم “الشعب يريد ..” ويتبعونه بمطالب أوضح من أن ينكرها ذو أذن وعقل!!
ثم هناك عنصر آخر مشترك في هذه التهم التي ادعاها حكامنا وكأنهم نقلوها واحداً من الآخر. ما تحدث زعيم من الزعماء العرب الذين قررت شعوبهم أن تلفظهم إلا قال ما معناه “إنني أشفق على الشباب المغرر بهم”. عبارة ترددت كثيراً وكانت شبه صدمة لكثيرين لم يخطر ببالهم أن زعماءنا يعرفون الشفقة أو يفهمون منطقها.
قلت لنفسي: لماذا “أشفق” زعماؤنا علينا الآن؟ ومن أين تفجرت بحار “الحنان” هذه فجأة؟
لماذا لم “يشفق” زعماؤنا على الشباب حين كان أحدهم يتخرج من جامعته ليقعد حبيس منزله أو جليس “شيشته” سنة بعد السنة؟!
لماذا لم “يشفق” زعماؤنا على الشباب الذين كان أحدهم يبلغ من العمر ما شاء الله له أن يبلغ ويخط الشيب في شعره خطوطاً وكلما سئل عن الزواج قال: حتى أكوّن نفسي؟!
لماذا لم “يشفق” زعماؤنا على الشباب حين كان أحدهم يذل في كل خطوة وكل معاملة حكمت عليه الأقدار أن ينجزها في بلده؟!
لماذا لم “يشفق” زعماؤنا على الشباب حين كانت مواهب المبدعين تدفن في موضعها وإنجازات الموهوبين ترد في وجوههم لأن أحداً ليس على استعداد لتبنّيهم؟
لماذا لم يشفق زعماؤنا على الشباب حين كان أفضلهم وأنبغهم يهجر وطنه الجاحد إلى بلاد تقدر له تفوقه وتعرف له حقه؟
لماذا لم “يشفقوا” علينا عندما لم نكن نجرؤ أن نطالب بحقنا أو نرد عن أنفسنا المظالم؟ لماذا الآن؟
فكرت حيناً في كل هذه الأسئلة ولم أجد إلا جواباً واحداً: إن حكامنا أشفقوا على أنفسهم لأول مرة فادّعوا الإشفاق على من لم يعد بحاجة للشفقة. وإن حكامنا باتوا لياليهم يهلوسون بالثورات فاتهموا بالهلوسة من هو أبعد ما يكون عنها.
فالحكاية إذاً ليست حكاية ثورات هلوسة بل هي هلوسة الثورات!!
—————————-
بقلم: kalemat haq