لم تشعر النسبة العظمى من المعارضة السورية حتى الآن بمدى كارثية مواقفها (مع أخذنا بالاعتبار كل الأسباب المخففة التي كانت دائماً تشكل رداً وحيداً على انتقادها) , وتأثير خلافاتها المباشر على زيادة الكلفة من دماء السوريين بالداخل , ومدى تأثيرها السلبي على قوة الحراك وتحييد شرائح كاملة , كان من الممكن أن تشارك بكامل ثقلها لو وجدت الرؤية السياسية الموحدة والمناسبة , فتخفف الضغط على المناطق التي تعرضت لنكبات متلاحقة من قبل النظام المجرم وتوفر الدم والوقت في عموم البلاد , فبدل أن تكون الشعارات الوحيدة التي ترفع على الأرض هي شعارات إسقاط النظام وبناء الدولة الحديثة ويتم الإضاءة على هذه المطالب فقط , باتت الآن ومنذ فترة ترفع شعارات توحيد المعارضة وبعض شعارات التبرؤ من هذا المعارض لدعم أخر و بالعكس , وأصبحت الدماء التي تنزف على الأرض هي في نسبة منها في سبيل تحقيق المطلبين أو تحقيق الأول كضرورة لتحقيق الثاني .
ودعم المجلس الأخير الذي أعلن في استنبول , لم يأتي من باب يقين الشارع المنتفض بشرعية اختياره وكفاءته , بل لأنه يريد الخروج من الدائرة المفرغة التي أدخلته إليها المعارضة , والدليل أنه قدم الدعم لكل المجالس السابقة التي تم التصريح عنها , دون أن يكون لديه أدنى فكرة عن غالبية الأسماء أو آليات اختيارها ونسب تمثيلها الحقيقية , وهذا الموقف يؤكد على انه يريد توحيد واجهة سياسية تعبر عن مطالبه ولا تهمه الاعتبارات الدقيقة في تقييم مشروعيتها , والتي بسبب ظروف القمع الهائلة التي تعيشها البلاد والإدعاءات المتلاحقة من عدة أطراف بأنها الممثل الشرعي والوحيد لعموم المتظاهرين , لم يعد بالإمكان معرفة أهليتها في ما تدعيه , إلا من خلال النتائج المنتظر أن يحققها أي من هذه المجالس السابقة وحتى المجلس الأخير والذي تم اعتماده من غالبيتها .
الشعب السوري قام بكل ما يطلب من شعب حتى يتحرر وسدد كلف باهظة من دماء شبابه , ولكن الشعوب حتى تنتصر لقضيتها عليها أن تخوض حروب تحررها على مستوى واحد ولو تعددت الجبهات , والشعب السوري الآن يحارب على ثلاث مستويات فهناك حرب لإسقاط النظام , وحرب لتوحيد المعارضة , التي أنجبت له تخلفاً بالموقف الدولي عليه أن يحارب أيضا لتصحيحه .
ولنا بالفلسطينيين المثل على النتائج المدمرة لتشتت القيادة وضعف تنسيقها إن لم يكن صراعها , ولو اختلفت ظروف كل شعب , مع أخذنا بالاعتبار أيضاً الفارق في كل من القيادتين إن صحت التسمية .
هذه المعارضة تفكر بعقلها إلا أن الذي يقود الثوار بالداخل هو الجنون , ولكنه جنون تفوّق على كل العقول وحقق بأيام ما عجزت عن تحقيقه بعقود , محمد البوعزيزي لم يكن له حسابات سياسية أو محاكمات عقلية عندما أشعل التاريخ .
ولم تكن له عبقرية من نوع خاص , بل هي عبقرية الجنون وحلوله المبتدعة للخلاص من نظم وأشكال حكم مستبدة تستخدم وسائل قمع متطورة , لم يتحقق الخلاص منها بالطرق المعروفة بالتاريخ , وحركة دينامكية من الحياة استعانت بالثورة التقنية للتعويض عن قصور العقل في سبيل خلاص الإنسان من ظلم لا يحتمل .
الجنون الخلاق الذي لن تستوعبه العقول المتصارعة على حصصها الشخصية وبأحسن الأحوال السياسية , والتي أصبحت بجزء كبير منها بعيدة عن مواكبة الأهداف الكبيرة لهذا الشعب , في سبيل تحقيق أهدافها , كتعويض معقول عن أثمان كبيرة سبق أن دفعتها بالماضي من حياتها الشخصية مثل الاعتقال والاغتراب القسري , والأسوأ أن هنالك بينها من لم يقدم أي تضحية مقابل مواقفه أو انتماءاته السياسية قبل بدء الانتفاضة .
ولو كان الجذر اللغوي لمفردة عقل المقصود بها (عملية ضبط الفعل ضمن سياق يعود على الإنسان بالمنفعة كمحصلة لتقدمه في الحياة ) فإن واجب المعارضة أن تضبط وتوجه الحراك ضمن منظومتها لدعم وتقوية الفعل باتجاه تحقيق مطلب الثوار , ولن يتم ذلك إن لم تتخلص هي أولا من كل ما يعيق تحقيق تناسقها الداخلي , والاستفادة من كل إمكانية متوفرة ضمنها وتحقيق عملية توزيع الأدوار على حد قول ياسين الحاج صالح .
وبما أن هناك توافق تام على الدور الكبير إن لم يكن الوحيد لشريحة الشباب (من الجنسين) في هذا الحراك فلأن الشباب لم تسكنه بعد , هذه الأمراض التي تحوم حوله متجسدة في غالب المعارضة التقليدية .
وقد يضطره تردد المعارضة وتكلس الكثير من عقولها , التي أوصلته لمنتصف البئر (كأحد الشعارات التي رفعت) أن يثور حتى على العقلية القديمة , كمنفذ وحيد أمام أكماله لدورة الجنون , في سبيل خلاصه من كل ما يعيق تحرره ولو كان المعارضة ذاتها .
وإن لم يشعر القائمون الآن على رأس هذه المجالس بمثل هكذا احتمال بسبب إخلاص الجزء الأكبر من هذا الشباب في سبيل إنجاح هكذا خطوة وضرورة إتمامها , إلا أن هذه القدرة الموجودة لدى الشباب , توحي بإمكانية استخدامها إن استدعت الحاجة , فمن قلب كيان نظام من أشرس الأنظمة بالتاريخ , لن يعجز عن قلب طاولة أية طاولة , وبما أنه ثبت بالتجربة لهذا الشعب أن الظلم مع وجود العقل كان أقسى من الجنون مع وجود الحرية , فإن المراهنة على عقلنة الظلم أثبتت الثورات خسرانه .
ما تم انجازه حتى الآن في هذا المجلس والضرورة القصوى لإنجاحه , تستدعي من الجميع , من كان داخل المجلس أو من يعمل من خارجه , الوقوف على قدر من المسؤولية الوطنية بعيداً عن أي حسابات أخرى .
وعلى المجلس والأطراف المحيطة به من المعارضة , أن يؤسس لهذه الواجهة التي سوف تتحمل وحيدة أية كلفة زائدة ممكن أن يدفعها هذا الشعب , وعليها أن تدرك مخاطر الوقوع في تراجعات في مستوى المسؤولية الكبيرة التي تصدرت لها أطرافه وشخصياته (وبأغلبها دون دعوة سابقة من أحد سوى ذاتها ) أو حتى التي اعترضت عليه من بقية الطيف المعارض والتي ليست بأفضل حال , والجميع هنا سيكون مسؤول عن مثل هكذا ارتكاسات قد تطيل من أيام عذاباتنا , فالجميع أصبح يعلم حجم الجهود الهائلة التي يجب أن تبذل في طريق قيام المجلس بالمهام التي توكلها بنفسه .
—————————-
ماهر اسبر