طاعت سوريا بكاملها للأسد وجماعته يفعلون بها ما يشاءون. الأسد أنشأ اقتصاداً شديد المركزية ، متضخماً و قليل الفعالية ، هو نسخة عن النظام السوفييتي بنكهة من العالم الثالث. الأسد كان مدركاً أن الحرية الاقتصادية والانفتاح حتى الاقتصادي المجرد كانا يشكلان خطراً على سلامة نظامه.
المشكلة أن هكذا نظام اقتصادي يحد من مجالات النهب و يقننها ، فمجالات السطو محدودة ومعدودة.الأسد كان يحاول الاحتفاظ بحد أدنى من المظاهر الاشتراكية في ظل اقتصاد يعتمد على قطاع عام واسع ومترهل مع مساهمة محدودة للقطاع الخاص بشكل يؤمن أوسع قاعدة ممكنة لنظامه. هدف الأسد كان تأمين حد أدنى من الخدمات بنوعية سيئة وبكلفة غير متناسبة للحفاظ على حد أدنى من الرضا الشعبي ، دون السماح لأزلامه بإظهار ثرائهم الفاحش . هذا نوع من “التقية ” التي تهدف للحفاظ على قشرة اشتراكية لاقتصاد قائم على النهب المنظم.
الأسد كان يدرك أن التهديد الاقتصادي لحكمه ، مع تدفق الدعم الخليجي لنظامه ” المقاوم ” بعد الطفرة النفطية وحرب التحريك لم يكن يشكل خطراً عاجلاً على استقرار دولته. المشكلة كانت في : كيف يؤمن ولاء مناصريه وكيف يضمن استمرار لعبة المقاومة والممانعة اللفظية دون التورط في مواجهة فعلية مع ٳسرائيل ولو بالحد اﻷدنى. دخول الجيش السوري ٳلى لبنان بدعوة من القوات اللبنانية والمسيحيين وبغطاء أمريكي مع دعم ٳسرائيلي سمح للأسد باجتراح حلول لهاتين المشكلتين ، المشكلة الاقتصادية ومشكلة الشرعية المقاومة.
على الصعيد الاقتصادي، سوف يصبح لبنان “البقرة الحلوب ” لنظام اﻷسد وسينجح اﻷسد في المحافظة على نظام اقتصادي “سوفييتي” في سوريا مستفيداً من النهب المنظم لموارد سوريا وللاقتصاد اللبناني الذي سيعاد تشكيله بطريقة تجعله “حديقة خلفية” لسوريا المنقطعة عن العالم واقتصاد نهب وخدمات لصالح المحتل اﻷسدي وجيشه. اﻷسد كان يهدف من وراء ربط الاقتصاد اللبناني القوي والحيوي باقتصاد سوريا المترهل خلق علاقة عضوية بين المجتمعين تكون خاضعة لسيطرته وتسمح بٳدامة سيطرته على سوريا و بلاد اﻷرز.
هكذا تمت ٳعادة تشكيل الاقتصاد اللبناني وخلق طبقة من رجال المال واﻷعمال ، وليس فقط الساسة ، المرتبطين عضوياً ومصلحياً بالمحتل اﻷسدي. هكذا تحولت شتورا وأجزاء شاسعة من البقاع ٳلى “هونغ كونغ” غير منتجة مهمتها تسويق بضائع العالم ٳلى سوريا عن طريق التهريب بما سمح بٳثراء الكثيرين من ضباط وزبانية اﻷسد على حساب الحركة الاقتصادية الصحية والسليمة. تحول لبنان ٳلى “سوبر ماركت ” كبير يشتري فيه السوريون كل ما هو “ممنوع ” في بلدهم من المناديل الورقية ٳلى الخبز والصابون ثم يعودون لبلدهم ويدفعون المعلوم كي لا تتم مصادرة “علب البسكويت ” التي يحملونها.
لا ننسى أيضاً زراعة الحشيش وتجارة المخدرات وتبييض اﻷموال واﻷتاوات التي كان ضباط و زبانية اﻷسد يفرضونها على اللبنانيين من صناعيين وتجار. أصبح لبنان “مزرعة كبيرة ” لآل اﻷسد وشركائهم يفعلون فيه ما لم يسمح لهم اﻷسد اﻷب بفعله في سوريا. اﻷسد اﻷب أراد حتى آخر لحظة في حياته المحافظة على مسحة من الاشتراكية في سوريا لمنع تحولها ٳلى مسرح للنهب المكشوف بما يحفظ للنظام قدراً محدوداً من المصداقية لدى فقراء سوريا.
لكي يرتوي لصوص العائلة فتح لهم اﻷسد اﻷب أبواب الداخل السوري بمقدار معلوم يحدده هو ، بالمقابل سمح اﻷسد لزبانيته بنهب لبنان دون حساب. اﻷسد الابن سوف يجد نفسه مضطرا لتحويل سوريا ٳلى مسرح للنهب المنظم والمكشوف بعدما تم طرده من لبنان. هكذا وقع اﻷسد الابن في الخطأ الذي اجتنبه أبوه وهو ما أوصل سوريا ٳلى حالة من الاستقطاب الاجتماعي والاقتصادي الحاد هي من أهم أسباب الحراك الراهن.
باعتبار أن “أهل مكة أدرى بشعابها ” نترك أمر جرائم اﻷسد بما فيها الاقتصادية والتي ارتكبها في لبنان لمثقفي لبنان اﻷحرار وهم كثر. حين تتحرر سورية من الاحتلال اﻷسدي ، سوف تبدأ حتماً مرحلة تخليص لبنان من وصاية “المحتل الصغير” اﻹلهي ، حينها سيكتب مثقفو لبنان بحرية وسوف “يكشفون المستور” من جرائم دولة العصابة اﻷسدية وزبانيتها وأذنابها.
بقي الشق الثاني من السؤال وهو : كيف “يقاوم” اﻷسد ٳسرائيل دون أن يقاومها فعلاً ؟
في عام 1976 وبعدما سحق اﻷسد القوة العسكرية الفلسطينية ورديفتها العائدة للقوى اليسارية، وبعد أن سمح بٳبادة “تل الزعتر” مع أن التفويض الممنوح له من قبل الجامعة العربية كان وضع حد للمذابح من أي جهة كانت ، توقف اﻷسد قبل القضاء بشكل كامل على السلاح الفلسطيني وهو ما كان المسيحيون ومن ورائهم ٳسرائيل وأمريكا يتمنونه ، فلماذا توقف اﻷسد قبل ٳتمام مهمته القذرة تاركاً لحلفائه اللبنانيين الجدد مهمة “تنظيف ” تل الزعتر ومواقع أخرى ؟
ترك اﻷسد لعرفات ولحلفائه اليساريين بعض القوات وما يكفي من السلاح والعتاد بحيث لا يسمح لهم لا بمهاجمة ٳسرائيل ولا بالعودة لتهديد المسيحيين. استطاع الفلسطينيون الاحتفاظ بمواقع لهم في الكثير من المخيمات الفلسطينية التي أصبحت “كانتونات” شبه مستقلة وخارجة عن سلطة الدولة اللبنانية. استمرار الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان أصبح رهن ٳرادة اﻷسد مع استثناء واحد هو جنوب الليطاني . هذا الاستثناء ما عاد يشكل خطراً فعلياً على ٳسرائيل مع تحكم اﻷسد بٳمدادات الفلسطينيين العسكرية و سيطرته على باقي اﻷراضي اللبنانية بما يمنع قيام جبهة موحدة مناهضة ﻹسرائيل.
لو كان اﻷسد قام بكل ما كان ينتظره منه الصديقان اﻷمريكي واﻹسرائيلي لكان حاله كحال “صدام حسين ” الذي اجتاح اﻷراضي اﻹيرانية مشعلاً حربا مجنونة ودامية وفتنة سنية – شيعية ما زلنا ندفع ثمنها ٳلى اليوم. صدام “سمع كلمة ” المعلم اﻷمريكي بحذافيرها وأطاع أوامر سادته في البيض اﻷبيض الذين كانوا يريدون معاقبة ٳيران وتشويه مسار ثورتها خاصة بعد حادثة احتلال السفارة اﻷمريكية في طهران. نعرف جميعاً “جزاء سنمار” الذي ناله صدام و عصابته رغم أنهم كانوا يعتقدون جازمين أنهم كانوا على نفس الخط مع اﻹدارات اﻷمريكية المتعاقبة.
اﻷسد الخبيث والحاذق عرف أين ينفذ وأين يتوقف وهو بهذا أصبح رقماً صعباً في المعادلة اللبنانية ولاعباً أساسيا في اﻹطار اﻹقليمي. هكذا فرض اﻷسد على ٳسرائيل أن تتدخل “لتقلع شوكها بيديها ” في آذار 1978 بعد “مذبحة الطريق الساحلي” التي شاركت فيها “دلال المغربي “. ٳسرائيل اجتاحت جنوب الليطاني قبل أن تؤسس جيش “سعد حداد” الذي سيقوم في جنوب لبنان بمهمة شبيهة بما يقوم به جيش اﻷسد العقائدي الذي يحرس الجولان منذ 1974. الفرق بين اﻹثنين هو أن جيش اﻷسد قام بٳخضاع التراب السوري و باقي التراب اللبناني لصالح سياساته المهادنة في المحصلة ﻹسرائيل .
الوجود اﻹسرائيلي غير المباشر في جنوب لبنان أصبح يلعب دور المبرر لبقاء الجيش اﻷسدي في باقي لبنان. الساحة اللبنانية أصبحت جاهزة لمهزلة “المقاومة ” أي الحرب بالواسطة بين المقاومة الفلسطينية واللبنانية مدعومة بسوريا اﻷسد من جهة وبين ٳسرائيل التي تدعم جيش لبنان الجنوبي من الجهة اﻷخرى.
هذه المسرحية سمحت بتحويل اﻷنظار عن الجولان المحتل وتوجيهها صوب لبنان الذي احتلت ٳسرائيل لتوها جزءاً من أرضه، تحميه بواسطة جيش “سعد حداد” ومقاتليه من الشيعة والمسيحيين. أصدقاء اﻷسد من المسيحيين سرعان ما فهموا أبعاد المناورة اﻷسدية وطالبوا بخروج قوات اﻷسد من لبنان. اﻷسد رد على هذه الدعوة بالعودة ٳلى التحالف مع القوى اليسارية وٳلى مساندة الفلسطينيين !
لم تعد القضية قضية أرض سورية محتلة وتخاذل عن التحرير ، بل قضية العرب وٳسرائيل والمواجهة المصيرية في لبنان ! اﻷسد أدار لعبة المقاومة ببراعة المحتال الماهر، فلم تكن هناك ضربات موجعة حقاً ﻹسرائيل وحرب الكر والفر دارت كلها على اﻷراضي اللبنانية وأغلب ضحاياها فلسطينيون ولبنانيون.
لكي يؤكد اﻷسد سلطته ويديم القطيعة بين اﻷطراف اللبنانية قام باغتيال رجل لبنان الكبير والعابر للطوائف ، كمال جنبلاط ، في 16 آذار 1977. باغتيال رجل لبنان الكبير يومها أزاح اﻷسد التهديد الذي كان يمثله الرجل الذي كان يحظى باحترام الجميع وكان قادراً على خلق توافق لبناني لن يكون في صالح اﻷسد.
سوف تستمر مهزلة المقاومة هذه حتى حزيران 1982 حين تقرر ٳسرائيل اجتياح لبنان بكامله لوضع حد نهائي للمقاومة الفلسطينية ولابتزاز اﻷسد.
——————————————————————