بعد “العلقة ” التي تلقاها اﻷسد في جنوب لبنان والتي سكتت عنها وعن تفاصيلها وسائل ٳعلامه، قرر اﻷسد بذل كل الجهود العسكرية الممكنة للحفاظ على طريق دمشق بيروت على اﻷقل.
قبل وقف ٳطلاق النار بيومين، استعدت وحدات “سرايا الدفاع” للدخول ٳلى اﻷراضي اللبنانية وﻷخذ مواقع دفاعية بغرض الاشتباك مع الوحدات اﻹسرائيلية المهاجمة على اﻷرض حتى دون تغطية جوية ، وهذا ما سوف يفعله حزب الله عام 2006. لكن “تطمينات” أمريكية معينة وصلت للأسد في آخر لحظة جعلته يتراجع عن هذا القرار، الذي كان سيعرض نظامه للخطر، ويقبل بوقف ٳطلاق النار.
لنلاحظ أن اﻷسد كلما انحشر وأحس بأنه في طريقه لفقدان المبادرة ، كان يسارع ﻷخذ خطوات من شأنها أن تعرض نظامه للسقوط! على مبدأ “امسكوني عنه ” فهل هي مصادفة ؟ لنتذكر أن اﻷسد حين وجد نفسه وحيداً في المعمعة عام 1973 وبعدما خرجت مصر من المعركة بعد اتفاق الكيلومتر 101 استمر في القتال بشكل عبثي وعرض نفسه لخطر السقوط أو على اﻷقل ٳضعاف نظامه جديا” لولا أن هرع العراب اﻷمريكي لنجدته في زيارات “كيسنجر” المكوكية.
نفس اﻷمر تكرر في حزيران 1982 حين حاول اﻷسد مواجهة ٳسرائيل بعدما فقد غطاءه الجوي بشكل بدا انتحارياً، تماماً كطفل مدلل “يرفس” بالغاً رفض الخضوع لنزواته ، فهل كان اﻷسد انتحارياً أو مغامراً لا يحسب حساباً للعواقب ؟ بالتأكيد لا، فالرجل كان يدرك حدوده ويعرف أن نظامه ضرورة استراتيجية للاعبين الثلاثة اﻷقوياء حينها.
السوفييت كانوا بحاجة له بعدما طردهم السادات من مصر ولولا اﻷسد لخرجوا تماماً من الشرق اﻷوسط ومن “المواجهة” مع اﻷمريكيين عبر ٳسرائيل.
اﻷمريكيون أدركوا أن الرجل لديه كل ما يلزمهم ، فهو مثل نورييغا في بنما، عديم اﻷخلاق والضمير وسيبيعهم البلاد والعباد بأبخس اﻷثمان ولمجرد أن يتنعم هو وعائلته بالسلطة وبخيرات النهب ولن يزعجهم في مسائل تافهة مثل حقوق اﻹنسان السوري أو الفلسطيني. ثم أن اﻷسد حافظ بأمانة على المصالح اﻷمريكية في المنطقة وكان خط اتصال اﻷمريكييين مع طهران الخميني التي كانت في طريقها لهزيمة المعتدي الصدامي.
ٳسرائيل وحدها لم تكن بعد تقدر اﻷسد حق قدره خاصة مع وصول الليكود ٳلى الحكم فيها. بالنسبة لليكود، اﻷسد ليس سوى أفاق ولص يبتز الجميع ويمكن الاستغناء عنه وعن نظامه ولو مع بعض المشاكل الثانوية. بالنسبة ﻹسرائيل فاﻷسد المدلل قد نال أكثر مما يستحق بكثير ومن هنا قرر “شارون ” تأديبه.
يظن البعض أن الضربة اﻹسرائيلية للقوات السورية في لبنان استهدفت القطعات التي ساهمت في مجزرة حماة ! كما لو أن “ٳسرائيل” عاقبت هذه القوات. لكن الحقيقة هي أن ٳسرائيل ضربت الوحدات التي حاولت اعتراض طريقها ولم تبحث عن تدمير القطعات السورية البعيدة عن المواجهة باستثناء صواريخ أرض جو التي تم تدميرها بالكامل في غياب الغطاء الالكتروني السوفييتي.
لا بد في هذه المرحلة من ٳيضاح بعض الحقائق حول شخصيتي “شارون” و”بيغين”. اﻷول هو من “الصابرا” أي اليهود الذين ولدوا في أرض الميعاد وهو عسكري محترف ودموي. “شارون” مغامر لا يحسب للمستقبل وهو لم يكن يوما رجل سياسة أو مهادنة. كان منصب وزير دفاع ٳسرائيل في 1982 هو أول منصب سياسي يتبوأه الرجل الذي قاد خرق “الدفرسوار” ومحاصرة الجيش المصري الثالث. كل من قرأ مذكرات ارييل شارون (ملك ٳسرائيل، قبل أن يسرق منه بشار اﻷسد هذا المنصب حديثاً) يعرف أن الرجل يكره العرب ويكن لهم احتقاراً شديداً وعداوة لا حدود لها. شارون شارك في حرب 1948 وجرح أثناءها، قبل أن يغمى عليه كان موقناً أن اليهود قد خسروا الحرب، لكنه حين خرج من المشفى كان العرب قد هزموا!
بين التاريخين كانت الهدنة بين العرب واليهود والتي تم قبولها من قبل العرب وهو ما سمح للٳسرائيلين بالتسلح وغير نتيجة الحرب بالكامل. بالنسبة لشارون، العرب كانوا قاب قوسين أو أدنى من قتله. ٳذا أضفنا لذلك احتقاره للعرب نفهم سبب كرهه لهم.
“مناحيم بيغن” كان رجلاً مختلفاً كل الاختلاف فهو قد عاش المحرقة ويعرف معنى الرعب وقلة الحيلة. بيغن يعرف معنى المعاناة واﻷلم وهو سياسي ورجل دولة من الطراز اﻷول. بيغن الذي قاد عصابات الارغون انتهى ٳلى تفكيكها وضمها للهاغاناه حين اقتضت مصلحة ٳسرائيل ذلك. وحده “بيغن” كان قادراً على لجم اندفاع شارون ووحشيته.
شارون الذي كان معتاداً على رؤية فلسطينيين مسالمين تحت الاحتلال “المستنير” وبعض المقاومين ممن تقطعت بهم السبل في فلسطين المحتلة، ٳضافة ٳلى جنود عرب لا يقاتلون ٳلا لماماً، وجد نفسه غارقاً في المستنقع اللبناني في مواجهة مقاتلين شديدي البأس، لا ينقصهم لا التصميم ولا اﻹرادة. وجد شارون نفسه امام مقاتلين عرب وفلسطينيين “غير شكل ” ليسوا “كجند اﻷسد”.
كل متر في ضواحي بيروت يكلف ثمنه دماً.
بالنسبة لشارون، المثال الحموي كان حديث العهد و “ما حدا أحسن من حدا”. كان يكفيه تدمير بيروت بالكامل للخلاص من المقاومة الفلسطينية التي كانت محاصرة براً وبحراً وجواً. هذا الخيار لم يكن محبذاً من قبل “بيغن ” اﻷكثر عقلانية واﻷهم أن أمريكا كانت خاضعة لحكم رئيس قوي اسمه “رونالد ريغان” اتصل هاتفيا ببيغن و “أمره ” بوقف القصف العشوائي المدمر لبيروت.
“بسيطة ” قال “شارون ” لنفسه ، فلدينا في بيروت الشرقية “رجلنا ” هناك واسمه “بشير الجميل ” بٳمكانه أن يقصف بيروت الغربية والمخيمات عشوائياً و”ينتقم” من الفلسطينيين. صعق “شارون” حين التقى ببشير الجميل ورفض اﻷخير أكثر من مرة المساهمة في قتل الفلسطينيين !
لم يتصور “شارون” أن يكون هناك عربي واحد لديه كرامة ومبادئ ولم يصدق أن يرفض كتائبي سفك دماء الفلسطينيين الذين قتلوا المئات من المسيحيين.
شارون الذي حاصر بيروت وقصفها ثم عجز عن دخولها دون اقتراف مذبحة على النمط اﻷسدي وجد نفسه محاصراً في ضواحي بيروت !
هنا سيتدخل اﻷمريكيون واﻷوربيون لحل “المأزق” اﻹسرائيلي وسيطرحون الحل المعروف القاضي بخروج المقاتلين الفلسطينيين عن طريق البحر ٳلى تونس ودول عربية أخرى. سيتم انتخاب بشير الجميل رئيساً للبنان وسيلتقي هذا اﻷخير مجدداً بشارون وببيغن، لكن بصفته رئيساً منتخباً للبنان.
هذه المرة أيضاً، سيصاب شارون و بيغن بخيبة أمل كبيرة، فبشير الجميل الذي لم يوسخ يده بدماء الفلسطينيين ولا بدماء حلفائهم أصبح رئيساً ذا شرعية غير منقوصة بالنسبة لكل اللبنانيين. الرجل وافق على السلام مع ٳسرائيل ولكن السلام الذي وافق عليه بشير الجميل هو سلام حقيقي لا معاهدة “فض اشتباك” على الطراز اﻷسدي. بشير طالب بسلام يحترم حدود لبنان الدولية كاملة وبحل للفلسطينيين في لبنان غير توطينهم المرفوض من قبل لللبنانيين والفلسطينيين معاً.
اسرائيل بيغن وشارون وقعت في ورطة عويصة فقواتها صارت في لبنان ولن تتمكن من تحقيق كل أهدافها وقد تضطر للانسحاب دون أن تتخلص من المقاومة الفلسطينية. اﻷنكى أن لبنان صار لديه رئيس قوي مما يجعل التلاعب بمصير لبنان صعباً.
من حسن حظ اﻹسرائيليين أن لديهم “جوكر” مستعد لتأدية كل الخدمات مقابل أثمان معقولة ودون التورط لا في سلام ولا في اتفاقيات علنية. اﻷسد، رجل المهام القذرة كان جاهزاً لتأدية المهمة وسيعض على كرامته المهدورة بعد هزيمته أمام الجيش اﻹسرائيلي الزاحف على أمل المحافظة على مزرعة النهب اللبنانية.
بالنسبة لٳسرائيل، لا أهمية استراتيجية للسلام لا مع لبنان ولا مع سوريا. لا لزوم للسلام حين تكفي اتفاقات فصل وتفاهمات. اﻷسد عرض “توسيع” خدماته لتشمل كافة اﻷراضي اللبنانية شمال الليطاني.
ٳسرائيل أدركت حينها أنها أخطأت حين استهترت باﻷسد وأن الكمائن التي نصبها لها اﻷسد في لبنان بالتفاهم مع حلفائه الجدد هناك كانت قادرة على ٳغراقها في الوحل اللبناني وجعلها تدفع ثمناً مرتفعاً لقاء التخلص من الفلسطينيين.
اللقاءات المثبتة عبر تقارير الصحف اﻷمريكية بين شارون ورفعت اﻷسد جرت في أوائل آب 1982 أي قبل اغتيال بشير الجميل وفي الفترة التي رافقت خروج الفلسطينيين من بيروت.
ليس صعباً تخيل اللقاء السريالي بين ارييل وشارون ورفعت اﻷسد في واشنطن ، فاﻹثنان نقيضان في كل شيء. اﻷول عسكري محترف وجلف يحب شظف العيش مع جنوده ولا يجيد الكلام المعسول ، جنرال محارب مكلل بأوسمة حصل عليها بقتل العرب. شارون وجد نفسه وجهاً لوجه مع الرقيب السابق في الجمارك السورية، الذي لم يقاتل يوما ولكنه يحمل من اﻷوسمة ما يجعل أي ماريشال يغار منه. رفعت، اللص المخضرم ، زير النساء المحب لرغد العيش والمتحدث في كل شيء حتى ما لا يفهم فيه وجهاً لوجه أمام ارييل شارون الرجل المتقشف و الزاهد.
مع ذلك، عض “شارون ” على كرامته وتفاوض مع الرجل على أنه مبعوث من قبل أخيه ، المفترض فيه أنه أكثر جدية و المعروف عنه أنه يحترم “اتفاقاته ” خاصة مع من هم أقوى منه.
“خيرات ” هذه المفاوضات لن تتأخر ، ففي الرابع عشر من أيلول 1982 سيتم اغتيال الرئيس المنتخب بشير الجميل وسيتم انتخاب شقيقه “أمين ” ضعيف الشخصية والمتردد مكانه. اﻷسد قام بنزع أول اﻷشواك من جسد ٳسرائيل.
التزامات اﻷسد مع شارون تجاوزت مسألة بشير الجميل الذي تم اغتياله على يد قومي سوري مرتبط بالمخابرات السورية ، ككل هذا الحزب الذي استحال ٳلى خادم مطيع لآل اﻷسد ولا يزال. اغتيال بشير كان “دفعة على الحساب ” فٳسرائيل كانت لها مطالب أكثر أهمية من اﻷسد.
أول هذه المطالب كان “تنظيف ” المخيمات الفلسطينية من بقايا المقاتلين الذين ربما لم يخرجوا مع ياسر عرفات والثاني كان “تنظيف” باقي أجزاء لبنان من المقاومة الفلسطينية خاصة في البقاع والشمال اللبناني، حيث لم تتمكن ٳسرائيل من الوصول بسبب الممانعة اﻷمريكية.
كيف سيتمكن اﻷسد من مساعدة ٳسرائيل في “تنظيف” المخيمات الواقعة تحت سيطرة الجبش اﻹسرائيلي دون أن يرسل زعران سرايا الدفاع ٳلى هذه المخيمات ؟
رفعت اﻷسد قدم ٳلى شارون الرجل الذي سيساعده على “تطهير ” المخيمات الفلسطينية وهو المسيحي الذي قدم خدمات جلى سابقاً للأسد وزبانيته في زحلة وغيرها. اسم الرجل “ايلي حبيقة ” وسيبدأ حملة التنظيف من مخيمي صبرا وشاتيلا…
أحمد الشامي http://www.elaphblog.com/shamblog
نشرت في العدد الثالث والثلاثون من “حـريـــــــــــــات “، الجريدة الأسبوعية المستقلة للثورة السورية، والذي صدر الإثنين
http://www.syrian-hurriyat.com/issues/Hurriyat_issue33.pdf
26.03.2012