ابتدأت رحلتنا عندما انحرفت السيارة عن الطريق الأساسي لتأخذ طريقاً فرعياً، تجبناً لحواجز عسكرية نحن في غنىً عنها… بدأت ملامح المدينة بالتشكل أمامي، ودقات قلبي تعلو مع كل بيت أراه، وكل طفل ألمحه… إنها دوما… دوما الحبيبة… دوما التي أحلم بزيارتها منذ سقط أول شهيد فيها… تتراءى أمامي، عظيمة، بسيطة، لا تختلف في شيء عن الكثير من أحياء دمشق، لكنك تشتم فيها رائحة الثورة، والغضب، والحرية…
مع اقترابنا من المكان المحدد بدأنا نبطىء سيرنا شيئاً فشيئاً، وبدأت تتناهى إلى سمعنا أصوات هتافات تختلط بقرع طبول وتصفيق وتصفير… وعندما أوقفنا السيارة لم أصدق ما أراه أمامي، فهو يشبه كل تلك المقاطع التي أسهر كل يوم وأنا أبحث وأقلب بينها، لكنه هذه المرة كان أمامي… أراه بعيني دون أن تفصلني عنه شاشة غبية، أو تلفاز أحمق…
كنا عند تقاطع طريقين… من اليمين مظاهرة نسائية مع قرع طبول، ومن اليسار مجموعة من الرجال والشباب… أمامنا تمر سيارات وتمضي وكأن المشهد اعتيادي، الرجال ينظمون السير وحركة المظاهرة النسائية… أخرجنا أحد الرجال من ذهولنا وهو يدعونا للانضمام للمظاهرة، فهم بانتظارنا، وقد جهزوا لافتة ترحب بنا: “تنسيقية نساء دوما الأحرار ترحب بوفد القصاع الأبية”… اقتربنا، وانخرطنا نحن الفتيات في المظاهرة النسائية بخجل, بينما انضم بقية الشبان للرجال في الخلف وعلى أطراف المظاهرة… وفي اللحظة التي انتبهت فيها النسوة لمجيئنا، أفسحن لنا المجال لنكون في المقدمة، وارتفعت الهتافات للترحيب بنا: “يا قصاع دوما معكي للموت”… “واحد واحد واحد… قصاع ودوما واحد”، وخلال لحظات أُخرجت أعلام كبيرة كي نحملها، وأعلام صغيرة كي نغطي بها وجوهنا… رأيت عشرات الشموع تمتد نحوي مع ابتسامات تملاً الوجوه… أخذت شمعة وأشعلتها لي الفتاة الواقفة بجانبي, ولم أكن بحاجة للاهتمام بشمعتي, فلا تكاد تطفئها نسمة عابرة حتى تشعلها عشرات الشموع المجاورة…
جبنا الشوراع ونحن نهتف, تتصاعد الأصوات معاً وتخفت معاً، ومن ورائنا كان الرجال يهتفون معنا… كنا نسير وسط السوق، وسط مارة يسيرون على الأرصفة، يتسوقون وينظرون إلينا، بعضهم يبتسم وبعضهم الآخر لا يعجبه منظرنا… وعديد من النسوة يقفن على الشرفات، ينظرن إلينا ويبتسمن…
وصلنا إلى نهاية السوق ووقفنا هناك نهتف، وبعد عدة دقائق جاء أحد الرجال ليشير إلينا بأن نفترق… نظرنا إلى بعضنا، ولم تكن لدينا رغبة بالذهاب فلم نبرح مكاننا واستمرينا بالهتاف، إلى أن جاء عدة رجال وبدأنا بالتفرق عندما انقطعت الكهرباء وفهمنا أنها ربما إشارة لبدء إطلاق النار… بالنسبة للفتيات الأمر كان طبيعياً… “شوية قواص… عادي… مافي شي”… لكن الجميع كان حريصاً علينا أكثر من حرصهم على أنفسهم فمشينا بسرعة، وخلال دقائق جاءت السيارات لتأخذنا إلى بيت “أم أحمد”… استُقبلنا هناك بحفاوة لم نعهدها… جلسنا نحن النساء في غرفة والرجال في الغرفة المجاورة… علت الأصوات بالنقاش والضحك والنكات، كل منا يحكي عن أشياء عاشها، أو سمعها، أو يعرف أين وكيف حدثت…
كم هم جميلون… آه ما أجملهم، وما أجمل فرحتهم بنا… ما أجمل الأعلام التي خاطوها وكتبوا على كل واحد منها إهداء صغيراً لنا… ما أجمل أحاديثنا, وما قالوه لنا… “اليوم يوم تاريخي بالنسبة لنا… لقد أنقذتمونا… أنقذتمونا من كل الاتهامات التي تكال لنا يومياً… فبمجيئكم لم نعد سلفيين، لم نعد أتباع العرعور… نحن، وأنتم، سوريون… سوريون فقط…”
نحن… أنقذناهم؟؟؟ آه يا وطني كم تؤلمني…
بقينا في منزل أم أحمد حوالي الساعة، وعندما أصبح الوضع آمناً وبإمكاننا الخروج من دوما، بدأنا بالمغادرة شيئاً فشيئاً… ودعنا الجميع وانطلقنا، مشينا في حارات فرعية، مررنا بساحة البلدية ورأينا عناصر الأمن المنتشرة، و”الكاسحة” المتوقفة على زاوية أحد الطرقات… لم يستوقفنا سوى حاجز واحد لدى خروجنا من المدينة لكنه سرعان ما أفسح لنا الطريق, لنغادر هذه المدينة المباركة، مدينة البطولة، مدينة ملئية برجولة وأنوثة لم أعهدها من قبل… حتى الماء كان له طعم مختلف… حتى الضحكات كان لها صوت مختلف… وحتى رائحتي كانت مختلفة عندما عدت إلى المنزل…
العلم… سأخبئه الآن في الخزانة بين ملابسي، لكنني يوماً ما سأخرجه… سأحكي لأولادي وربما لأحفادي عن هذا اليوم… سأحكي لهم عن أم أحمد، أم عبادة، نور، فاطمة، والجميع… سأريهم العلم ليقرؤوا تلك الكلمات المباركة التي خطت عليه:
“إهداء من تنسيقية نساء دوما الأحرار إلى أحرار القصاع”.
———————————
بقلم: فتاة دمشقية
تعليقان
شكرا ياثورتنا…..فقد وحدتي كلمتنا
شكرا ياثورتنا…..فقد جمعتي قلوبنا
شكرا ياثورتنا…..فلقد عرفنا من عدونا
دوماني حر
ثورة حتى النصر