قبل الثورة، لم أعتبر نفسي يوماً أسكن في حمص مالم أتجول في أحيائها القديمة، وتتوقف السيارة وتتراجع مرات كثيرة في أزقّتها الضيقة لتفسح المجال لغيرها بالعبور، وعند الواحدة صباحاً كنت أحب أن أتوقف قرب جامع خالد بن الوليد تهدأ روحي المتعبة من كدر الدنيا حين أغرق في تأمل جمال الليل وسكونه هناك…
في النهار كانت كل الدروب تقودني إلى باب هود.. فأجد نفسي خلف أبواب الحي المزخرفة، ونوافذ البيوت العتيقة، وشجرة الليمون التي تستقر في كل بيت، وأصوات العصافير التي تملأ الحي صخباً طفولياً وجمالاً…
وفي عطلة آخر الأسبوع كنت أقصد باب التركمان، أبحث عن بقايا القلعة، وطريقها المهيب.. وعن أسامة الذي سمّيت باسمه، أين ورثته، ومن تعلقوا بسيرته.. وأعود ومعي أرغفة الخبز التنور الساخنة وقد زينتها حبة البركة، وبركة اليد التي صنعتها فأجادت وأحسنت.. فأتدفأ على منظر الخباز يعطي نتاجه بفخر.. وعلى منظر الأطفال يلتهمون الأرغفة ويثرثرون.. وكم يمتعني أن أنصت لحكايا الصغار وتفاصيل مغامراتهم تحت المطر.. ولم يكن يهنأ لي عيش إن لم أعرّج على باب السباع..
في حمص القديمة حيث كانت الشوارع ضيقة لكنها تتسع لكل القلوب، للسيارات والمشاة، لشيخ يركب دراجته قد عبأها بقوت عياله، وعربة بائع جوال تجد دائما لها زاوية وزبائن من النساء والأطفال.. ولعبة كرة قدم تفرض نفسها وسط الزحام، وياسمينة تدلت من على الجدران الحجرية السوداء، وسرب حمام يعانق سطوح المنازل ويبني له أعشاشاً قرب القباب والمآذن، وقطط قد ألفت الغرباء كما حفظت أهل الحي حتى تكاد تعدد أسماءهم، وأنت.. لا تكاد تلمحك حتى تستقر بوداعة بين يديك..
تفاصيل كثيرة تحتشد في الذاكرة، تلتقي فيها الطيبة والمحبة مع التاريخ والعراقة.. هناك كانت أشياء كثيرة أفتش عنها وأحتاجها فلا أجدها في أحياء المدينة الحديثة، وشققها الضيقة، والجيران الذين لا يعرف بعضهم بعضا، وشكل البيوت القاسي والمتاجر التي سُلبت منها رُوح الشرق حتى في أسمائها..
هناك كنت أحصل على جرعة من الحب من أم الحناين وأعود بهدوء عجيب..
مع الثورة، كانت الصلاة في جامع الزاوية مختلفة، قبيل أن يقصف، وبعد قصفه كان للسجود فوق الزجاج المحطم معنى آخر..
لغة تواصل من نوع مختلف، وحب يصعب تفسير معانيه، ورغبة بالبقاء هناك إلى الأبد…
تحت الحصار اليوم تمكث تلك الجميلة… وأشعر بالغيرة ممزوجة بالألم من المحاصرين… وقد أصبحوا حرّاسها وأسراها في آن معاً…
وأشعر بغيرة أخرى من المؤازرين لهم خارجها، وهم يحترقون أيضاً ليعبدوا طريقاً لفكّ الحصار…وطرقاً لتمهيد درب الانتصار..
كل قلب خافق موحّد هنا هو أغلى من تلك الجميلة، وياللمفارقة، هذه الحسناء تفتدي الجميع بروحها، على أن يحفظوا لها كرامتها، وألا يدعوها تموت بلا ثمن.. وأن يظلوا معها على العهد، فتلك هي حياة الشرفاء، وهذا هو مذهب الأحرار في كل زمان ومكان…
الأشواق اليوم مُتعبة من الانتظار، لكن اليقين بالله يهدئ لوعة الألم، ويسكب في القلب سلاماً.. فدار السلام بخير ما بقيت في القلوب العزيمة والإصرار…