باولو دالوليو – الراهب بولص
22/ 04/ 2012
————————————-
رأس يحيى بن زكريا
يطرح الأب باولو دالوليو في هذه الأوراق مجموعة من الأسئلة الشائكة التي سبق له أن عالج بعضها في مقالات أخرى (كموضوع الديمقراطية التوافقية، وموضوع العنف الموجودين على موقع دير مار موسى الإلكتروني). أراد باولو دالوليو أن يطرح مجدداً أفكاره للنقاش العام، ومن أجل ذلك نشر هذا النص:
لو شكّلت قرارات مجلس الأمن للأمم المتحدة على الدوام قاعدةً أكيدة لبناء السلام لما بقي النزاع العربي الإسرائيلي دون حلٍّ مدة عشرات السنين… ومع ذلك، لا بد لنا أن نقبل بشيء من الرجاء ومن الرضا الخجول ما قررته الأمم المتحدة بخصوص خطة كوفي عنان لأجل السلام في سوريا وإرسال المُراقِبين.
كرّس بابا روما “مبارك السادس عشر” أربعة أسطر جريئة من ندائه السنوي للعالم بمناسبة عيد الفصح داعمًا التزام الأمين العام السابق لمنظمة الأمم المتحدة. أعتقد أن هذا التصريح الهام متّصل بنشاط الكرسي الرسولي الدبلوماسي لخير سوريا، ولا سيما في العلاقة مع روسيا من خلال كرسي موسكو البطريركي. ومن الجدير بالذكر أن الطائفة المسيحية الأهمّ في سوريا هي طائفة الروم الأرثوذكس المرتبطة تقليديًا بكنيسة روسيا وقد سبق أن مارست إمبراطورية القيصر الروسي دورًا في حماية المسيحيين الأرثوذكس داخل أراضي الإمبراطورية العثمانية. سوف تبقى سوريا بطبيعة الحال، إذا استطاعت أن تسترد وحدتها بقالب جديد، بلدًا غير مُنحاز ومرتبطًا بالمصالح الإستراتيجية للاتحاد السوفييتي سابقًا. علينا أيضًا أن نلاحظ أنه ثمة إعادة تفعيل لدينامية لملمة البيت العربي فمؤتمر الجامعة العربية في بغداد يشير إلى هذا التوجه الذي بوسعه على المدى البعيد أن يُعالج التصادم الشيعي السنّي والانقسام بين مَن يُوالي إيران ومَن يعاديها.
نحيّي قرار الأمم المتحدة بإرسال المراقبين إلى سوريا فهو قرار يختلف عمّا حصل في الأشهر الماضية والذي جعل من سوريا حَلَبة لكل النزاعات الإقليمية. نتمنى أن يعود المجتمع الدولي عن ممارسة العقوبات الاقتصادية العقيمة وغير الأخلاقية على الشعب السوري فهي مُضرّة للشعب الذي تريد أن تدعمه. ومما لا يُصدّق أن تستمر بعض الدول، من بعد كارثة العقوبات على الشعب العراقي، في اختيار فرض مثل هذه العقوبات على الشعب برمّته. وكم هو ظلم كبير أن يُعاقَب شعبٌ تنقصه الحريّات الديمقراطية ويشتاق إلى نيلها.
كما هو معروف ناديت بإلحاح بالديمقراطية التوافقية الضامنة للوفاق الوطني على أساس التعددية المذهبية والفكرية والحزبية، ضمن حلقة الوحدة الوطنية والقِيم الأهلية المشتركة. ركّزت في هذا السياق على احترام “الخصوصيات الجغرافية” والتفعيل الإيجابي لطاقاتها ضمن الفسيفساء السوري التناغمي. كنا دائمًا ولم نزل مع السعي غير العنيف إلى الديمقراطية والحقوق المدنية ضد التغلُّبيّة الطائفية أو الفئوية داعين وبعناد إلى المصالحة الوطنية.
بناءً على تحليل الوضع الراهن أرى من المناسب، كمجرّد اقتراح رأيٍّ قابلٍ للنقاش والتعديل، أن أطرح فكرة الأفق التحالفي أو الفيدرالي، والذي أعتبره الدرب المناسب دستوريًا للحفاظ لا بل لإنقاذ وحدة البلد ودوره الإقليمي ولتسهيل عملية رأب الصدع بين مكوّنات المجتمع وإعادة بناء التلاحم القومي. هذا ما أقوله دون خجل من جهة ودون حديّة من جهة أخرى وأعرف أنّ هناك من سيتهمني بالتشاؤم الوطني والعمل على تفتيت المجتمع السوري وهذا من الجهتين، أي الذين يريدون أن يربحوا كلّ شيء مهما كلّف الأمر والذين يريدون أن يحتفظوا بكلّ شيء مهما تسبّب به الأمر من خسائر.
من المعروف أنّ هناك مَن يرغب بتقسيم سوريا في سبيل إضعافها وتهميشها وهذا ليس بجديد في تاريخ الأمم وتاريخ المنطقة وكما كان يقول الراهب اللبناني القديس “الشاطر يخلّص نفسه”. فلذلك أكرّر القول أنّ احترام الخصوصيات الجغرافية إلى درجة شيء من الفيدرالية ليس بالأمر الذي يفتّت الوطن، بل هو الإجراء الذي قد يضمن وحدة الوطن مع حرية المواطنين الديمقراطية.
ومن المعروف أنّ هناك خصوصية كردية في سوريا وهي مرتبطة بذات الخصوصية في العراق وتركيا وإيران. لا يعيش الأكراد وحدهم في منطقة الجزيرة وعدد كبير من الأكراد يعيشون في كلّ البلد. وأعتقد أنّ إعطاء الأكراد حقوقهم يوطّد السلم الأهلي في سوريا ويمهّد الطريق لحلّ المسألة الكردية في المنطقة كلها حتى يصبح الأكراد عنصرًا فاعلاً لأجل الوئام الدولي وجسرًا بين بلدان المنطقة.
من المعروف أيضًا أن هناك مسألة درزية في الجنوب وهي خطيرة بسبب وجود “كانتون” درزي في لبنان ووجود درزي في شمال فلسطين-إسرائيل، الجليل، وقد حاول الصهاينة تسخيره ضد العرب. سوريا لا تستطيع التنازل عن الجولان ولن تفعل، وهذا بسبب حقوقها الوطنية وليس فقط بسبب حاجتها إلى الماء لإرواء ظمأ العاصمة. والتمسّك العربي والسوري لأهلنا في الجولان سواء من الجهة المحررة أم من الجهة المحتلّة، هو ما يعزّي ويطمئن في هذا النطاق.
يعتقد البعض أن هناك خريطة لدولة منقسمة عن سوريا بين العاصي والبحر. بينما أنا من الذين يخشون أن هناك على الصعيد العالمي أكثر من جهة تتمنى إضعاف سوريا من خلال الحرب الأهلية وانقسامها المستدام، الجهات كثيرة والهدف واحد. يؤمن معظم السوريين من المؤيدين والمعارضين بوحدة البلد ثقافيًا واقتصاديًا ومؤسساتيًا. وللأسف الشديد وصلت الجروح إلى العظم وأصبح الشَرخ صعب العلاج. لذلك أضع شيئًا من رجائي في دستور تحالفي إذا كان هذا ما اختاره الشعب السوري وهذا ما أراده ديمقراطيًا لمعالجة الصعوبات والردّ على الاعتداء الخارجي.
إن الوحدة السورية وُطّدَت بإرادة واضحة وكفاح من قِبَل الشعب السوري في زمن نيل الاستقلال من المُستَعمِر الفرنسي. وبقيت الوحدة الركن الأول من أهداف حزب البعث العربي الاشتراكي. إلا أن أزمة الحلم الاشتراكي منذ عشرين عامًا تفرض إعادة التصوّر لمفهوم الحرية والوحدة. فالحرية التي ندافع عنها ممن يتعدى علينا من الخارج تفترض اليوم، وبطلب من الشباب العربي، تحقيق الحريات الديمقراطية للمواطن في الداخل. والوحدة التي كان يضمنها الحزب القائد للدولة والمجتمع لابد أن يختارها اليوم الشعب بكل أطيافه وليس بالضرورة طبقًا لمفهوم الدولة المركزية… وقلّ من يشكّ أن الاستفتاء الدستوري في شهر شباط المنصرم شكّل انتهاء عهد والإقرار بضرورة افتتاح عهد تعدّدية الأحزاب. إن النماذج الناجحة في العالم عديدة، وعلى السوريين أن يختاروا معًا الشكل الذي يناسبهم جميعًا من خلال الحوار الوطنيّ الحر لا المُسبَق الصنع من أيّ جهة كانت. فبحسب رأيي المتواضع، والخاضع بطبيعة الحال للحل الذي سيؤلّفه ويصنعه شعبنا الناضج، أعتقد أن الظروف تتطلّب جرأة اقتراح الحل الفيدرالي للخروج من الأزمة وفتح آفاق جديدة للوحدة ليس لسوريا فقط وليس للوطن العربي فقط بل آفاقًا بنّاءة لمستقبل شرق المتوسط أيضًا.
لم يزل عدد كبير من المواطنين يتمسّك بتحليل الوضع الراهن بطريقة مذهبية، فإما أن يُسمّى الموضوع ثورة ضد نظام وإما وعلى العكس من ذلك هجومًا من التآمر الإرهابي ضد وطنٍ وقيادته. هذا هو الأساس الرمزي المُوافِق لحالة الحرب الأهلية التي نعاني منها. انقسم الإعلام العالمي قسمين مع إعلامنا العربي البعض لا يرى سوى الإرهاب والبعض الآخر يرى القمع فقط. بينما نشعر بعمق أن الحل يكمن في المصالحة، في نطاق حرية الرأي والتعبير عنه والتخلّص من وحشية العنف أينما ظهر أو اختبأ.
ليس من المُفاجئ بل من المُؤسف جدًا أن عمليات التعدّي والتخريب والسرقة ضد آثار وأوابد البلد تزداد عددًا وضررًا في كل سوريا، شهادةً على غباوة منطق العنف المُنتفِع والعمى الروحي والحضاري.
والآن أدخل في موضوع حساس فكلّ مرة يدور الحديث حول تدخل الدولة الإسرائيلية في شؤون العرب هناك خطر أن تقع في منظار قنّاصي الإعلام السفاحين.
فقد أصابني هجوم شديد اللهجة من سفير إسرائيل سابقًا سيرجيو إسحق مينربيه ) S.I.Minerbi ( في مجلة Diamon ردّا على مقالتي عن الربيع العربي في المجلة نفسها. فاتهمني بموقف معادٍ للساميّة وببغض اليهود. ويشهد الله أنني أحبُّ كلّ الناس محبّة المسيح، وأحبّ العرب مسلمين ومسيحيين ويهودًا وغيرهم، لأنني أعيش فيما بينهم ولهم منذ ثلاثين عامًا طاعة للمسيح. ولا أكره اليهود الذين منهم المسيح وأمّه الطاهرة والحواريون والتلاميذ… ولا أنكر حنينهم وشوقهم إلى الأرض المقدسة وأعترف بآلامهم عبر الأجيال حتى كارثة المحرقة… بيدَ أنني اتخذت مواقف واضحة وعديدة ضدّ الطغيان الصهيوني وحركة الاستيطان بالتآمر مع الدولة الأمريكية وأتباعها. ومع ذلك لا أفقد الرجاء بسلام عادل في المنطقة…
في الأوضاع الراهنة ألاحظ وبمرارة أن إسرائيل تعمل بشكل منظّم، وأيضًا من خلال الموساد واللوبي اليهودي الدولي وخاصة الأمريكي، على إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط على أساس طائفي مثيرة عن بُعد النزاعات الأهلية بين جيرانها، ولا سيما بين أهل السّنة والجماعة وشيعة النبي. ونذكر هنا الحرب اللبنانية، والحرب بين إيران والعراق، والتوتّر القائم اليوم بين إيران ودول الخليج ذات الأكثرية السُّنية، والحرب الأهلية العراقية أثناء احتلال أمريكا وحلفائها، والانتفاضات ذات اللون الطائفي في الخليج ولا سيما في البحرين وحتى اليمن، وأيضًا النزاع بين الفلسطينيين أنفسهم بمشاركة الأطراف الإقليمية…
إنه أمر لا يُصدق، مع أنه حقيقي ومُلاحَظ أنّ أهل الشيعة إجمالا يعتبرون إسرائيل حليفًا لأهل السُّنة ضدهم، وأن أهل السنة يعتقدون أن إسرائيل هي أقوى داعم لأهل الشيعة… مع أنها تستعد لقصف المفاعلات النووية الإيرانية.
ثمة عمل غير علمي ينتشر تحت أغطية شبه علمية منحرفة لإنكار (negationism) المحرقة اليهودية، وإنكار الرابط بين اليهود والقدس وأرض فلسطين أيضًا… فالموقف المعادي للسّاميّة موقف عنصري ولد في أوروبا الشرقية والغربية، وهو غريب ودخيل على المُحيط الإسلامي والعربي، إذ عاش اليهود في السلم والاحترام وحُسن الجوار مدّة أجيال في المدن العربية. والهيئة الصهيونية تستخدمُ كلّ هذا وبفنٍّ رهيب لكي تبرهن لليهود وللعالم أنّ هؤلاء العرب والمسلمين لا يريدون حقوق الفلسطينيين، بل يتدرّعون وراءها لتبرير التفرقة العنصرية داخل إسرائيل واستمرارية حركة الاستيطان… فلا بأس أن يستمرّ أهل سوريا بالقتال المتبادل وأن يهتمّ المجتمع العالمي بالنووي الإيراني… فتكسب إسرائيل إضعاف المقاومين لها والتغييب الإعلامي العالمي للحركة التوسعيّة الصهيونية المستمرّة.
هناك توافق كارثيّ بين المصلحة الصهيونية في أن تفرّق بين الجيران لتسود عليهم، وبين ما يُشبه الصعوبة لا بل الاستحالة المُستدامة للتعايش السلمي الديمقراطي بين الطوائف الإسلاميّة. ومن هنا يأتي دور بعض الأشخاص في العالم كلّه وفي كل الجماعات ليسعوا للتآخي الإبراهيمي، والعمل المسكوني ضد منطق البغض الطائفي والكره الديني، ولأجل توطيد حُسن الجوار المقدس على أرض الأنبياء المقدسة والمباركة بمِلء العدل والإنصاف.
قد أصبحت تصريحات الولايات المتحدة الأمريكية لدعم الديمقراطية في الشرق الأوسط بما فيه سوريا أفلاطونيّة ولفظية في هذه السنة السابقة لانتخابات الرئاسة الأمريكية، التي تُعاني من ضغط مُباشر من قِبَل اللوبي الإسرائيلي على سياستها. فيتردّد الرئيس أوباما، الذي يخسر حرب أفغانستان، بين الإيفاء بوعده بأن يدعم حقّ العرب والمسلمين في الحصول على الديمقراطية الناضجة، وبين موقف أقسام هامة من الحكومة الأمريكية التي لا تريد أن تقبل نتائج هذا الوعد الداعم للحريّات. فرنسا أيضًا، وهي في خضم الانتخابات الرئاسيّة، تعود إلى خلط الماء مع الخمر الثوريّ. وإنّ تأرجُح المواقف التركية يُظهر “المكاسرة” الإقليمية الجارية، وبالطبع لا يُساعد…
قد اصطفّ قسم مهمّ من الإعلام الأوروبي مع الدفاع والحفاظ على نظام دمشق متبنين دون نقد التفسير الرسمي لأحداث العنف الجارية ومُعتبرين السلطة في سوريا من يمثّل المناعة الوحيدة ضد ما يُلقّب بالتعصّب السُنّي الإرهابي. وقد شُكِّلَ تكتّل مدهش ووحلي يجمع بين شظايا تآمرية وإنكارية ((negationist وعائدة إلى تيارات الفاشية الجديدة والرافضة للإمبراطورية الأمريكية في أوروبا. الاسم الذي نسمعه باستمرار في هذا الخصوص هو “شبكة فولتير” (Réseau Voltaire) النشيطة في فرنسا وبلجيكا وسويسرا وألمانيا وغيرها. ينضمّ إلى هذا التكتّل عدد من التوجّهات المعادية للإسلام بين صفوف المسيحيين التقليديين الرجعيين في الشرق كما في الغرب، ويا للعجب، مع بعض الارتباطات الإسرائيلية.
في هذا النطاق لا يُدهشنا ولكنّه يحزننا أن يذهب بعض رجال الدين المسيحيين، في مواقفهم القومية المتشدّدة والداعمة لمنهجية البغض الانتمائي، بقولهم أنّ يسوع لم يُولد في اليهودية بل في لبنان وأنّ أمّه كانت تعبد إله الكنعانيين لا إله موسى وأنّ يسوع هو المسيح المُنتظَر من قِبَل السوريين لا اليهود وليس هناك ما يربطه بشعب الكتاب المقدّس والبُرهان هو أنّه قد تعمّد… واليهود لا يتعمّدون… لا حاجة للإطالة بل لا بدّ للمسيحيين، ضمن هذه الظروف الرمزية المُلتبَسة، أن يعودوا إلى الكتب المقدّسة بنظرة علمية وتَقَوية في آنٍ معًا مع تجديد التعليم المسيحي والعودة إلى ضمير الكنيسة الأولى المتأصّل في الإرث الكتابي ينبوعًا. على التيّارات الإسلامية أيضًا أن تعود إلى التيّار الربّاني العميق والأساسي في المُركّب الرمزي القرآني، فقد أتى القرآن ذكرى ولا ينفصل عن العالم الكتابي اليهودي والمسيحي، إن لم تُرِد أن تُصاب بالعقم الروحي الذي لا رجوع عنه.
إنّه صحيح، تدخل الأسلحة إلى سوريا ضمن نطاق الحرب الأهلية ويُدفع ثمنها وتُنقَل ضمن مجال التضامن السنّي الجهادي. وهناك بعض الدول مثل المملكة العربية السعودية وقطر التي تشجع تسليح النزاع في سوريا. من البديهي أنّه بقدر ما تُقمَع المُطالبة الشرعية والسلمية بالديمقراطية وحق تقرير المصير وبقدر ما تُذّل مطالبة الشعب بالشفافية يتّسع المجال لنشاط التيارات الجهادية التكفيرية العنيفة. تُعلِّم الخبرة أنه ليس من السهل استئصال هذه التيارات إذا انتشرت لأنها تعلّمت أن تُموِّل نفسها بنفسها وأن تهتم بنشر أفكارها بشكل واسع. لا عجب أنّه في المستنقع الدولي للمافيات والمصالح الوسخة تتشابك جذور جميع النباتات السامة وهي في آخر المطاف، ولو بطريقة غير واعية، متآمرة مع بعضها. فلا بد من أن تتم مقاومتها بممارسة المسؤولية الديمقراطية للمجتمع المدني العالمي القادم.
بحق تاريخي الشخصي في شرقنا أنتمي فطريًا إلى الشريحة الاجتماعية والفكرية الساعية بأساليب اللاعنف إلى إيجاد الحلول المناسبة لاجتياز الأزمة الحالية، وأبقى رافضًا للعنف كوسيلة للتغيير السياسي. يشهد لموقفي الشخصي، وبصفتي رئيساً لدير مار موسى الحبشي في النبك، النشاط الفكري والثقافي والبيئي والاجتماعي الذي قمنا به في الدير مدة سنوات طويلة، مرتكزين دائمًا على مبدأ الإصلاح التدريجي والشفافية في العلاقات والاعتماد على المجتمع المحلّي وترويج تفعيل المجتمع المدني والتشاور مع الفعاليات المحلية والوطنية، أي وبكلمة واحدة خدمة نضج بلدنا الديمقراطي لأجل كلّ السوريين، لا بغضًا ولا رفضًا ولا تهميشًا لأحد منهم لا بصفة شخصية ولا بصفة دينية أو مذهبية.
إنّ الكنيسة الكاثوليكية، ومن بعد كوارث القرن العشرين المُرعِبة، اقتنعت وصرّحت رسميًا أنّ النظام الديمقراطي مع كلّ نقائصه يشكّل أفضل ما استطاعت البشرية الوصول إليه لتدبير المجتمع. هذا لا يعني أنّ الكنيسة رفضت التعامل مع كلّ نظام لم يحقّق الديمقراطية الشفافة الكاملة بكافة أوصافها. وبالواقع تعاملت الكنيسة مع كلّ النظم لخدمة الخير العام وحماية المواطنين والدفاع بالدرجة الأولى عن الحريّة الدينية قدر الإمكان… فالتدريجية من سمات الكنيسة وفضائلها.
تشجّع الكنيسة، والأمر معروف، منهجية اللاعنف في معالجة النزاعات ومع ذلك لا ترفض حق المواطنين في الدفاع عن حقوقهم دائمًا. مع ذلك تذكّر الكنيسة بخطر استعمال القوة بناءً على حق الدفاع عن الذات لأنه كثيرًا ما يتحوّل إلى حجة لاستفحال العنف، فتدعو إلى البحث الدائم عن الأساليب السلمية لمعالجة الإشكاليات مع تخفيف استعمال القوة إلى أقلّ حد ممكن بالكميّة والفترة. ولابد من التمييز بين المواقف المختلفة في صف التأييد كما في صف المعارضة. فالنقاش قديم في سوريا عن مفهوم الإرهاب ولكلٍّ من الأطراف مفهومه الخاص والكلّ يتهم الآخر بممارسة الإرهاب أو بالتحالف أو التآمر معه! في وقت دخول المراقبين الدوليين إلى البلد لا بد من تعريف أوضح للإرهاب واستخدام القوة الدفاعي من قِبَل هذا الطرف أو ذاك.
أعتقد أننا بحاجة إلى دعم الذين لم يزل بإمكانهم أن يشكّلوا الغضروف غير العنيف بين عظام هذه الأزمة القاسية. لا شك، بحسب ما أراه، أن للنظام السوري قاعدة شعبية واسعة لم تزل مقتنعة بأن هذا النظام يشكّل الحل الوحيد لاحتياجات البلد، ولا بد من أخذ هذا الموقف بعين الاعتبار محليًا ودوليًا فإنه يمثل شريحة مهمة من الشعب السوري. في الواقع يعود هذا الجسم السياسي إلى مركّب ثقافي سابق للديمقراطية ونافر منها حتى عندما يلبس شيئًا من ثيابها، لذلك من الصعب للرأي العام الدولي أن ينجذب إليه بالتقدير والإعجاب… ومع ذلك لا بد من أخذ الشريحة الشعبية الملتفة حول النظام بعين الاعتبار فالحوار أصبح ضرورة إستراتيجية وليس حاجة أخلاقية فقط.
اقترحت في الأشهر المنصرمة القيام بورشات حوار بين السوريين خارج القطر على اختلاف مواقفهم السياسية، لخلق المجال لذاك الحوار الديمقراطي الذي يصعب تحقيقه داخل الوطن إلى الآن. والرجاء هو أن ينجح الحوار بين السوريين بمساعدة وسطاء أسخياء وقادرين على أن يستخلصوا مفاهيم مفيدة في سبيل الإصلاح الوطني وإعادة توحيد البلد.
أخيرًا أناشد كلّ الأطراف والأطياف والأحزاب أن تقتنع بضرورة احترام حرية الرأي والتعبير ولا سيما في الوضع الراهن، فتوفُّر شيئاً من الموضوعية في الحراك السياسي يولّد الرجاء في مستقبل أكثر إنسانية، أمّا في غياب حرية الرأي والتعبير لا يسود سوى الكذب والطغيان وبالتالي اليأس.
لا يُفيد أن نتحجج بالتسخير الإعلامي العالمي من قِبَل هذه المصلحة أو تلك حتى نبرّر القمع الفكري والتعدّي على الأشخاص والاغتيالات والاعتقالات والخطف وهلمّ جرّا… من أيّ طرف صدرت. إنّما طريق الحرية يتحقق على دروب احترام الناس في أجسادهم وفي أفكارهم وفي ممتلكاتهم وفي ممارسة حقوقهم.
مؤخرًا، تمنّى السفير الباباوي في دمشق على رجال الدين من مسلمين ومسيحيين أن يقوموا معًا بزيارة تَقَوِيّة مشتركة إلى مقام يوحنا المعمدان يحيى بن زكريا في الكنيسة الدمشقية القديمة، الجامع الأموي حاليًا على خُطا البابا يوحنا بولس الثاني عام 2001. فإنّ رأس ابن زكريا المدفون في دمشق يحمل رسالة فقد قُطِع هذا الرأس لأنّ النبيّ نطق بالحق.
تعليق واحد
تنبيه: رأس يحيى بن زكريا – باولو دالوليو . . الراهب بولص « مختارات من الثورة السورية