أهو النظر إلى النصف الممتلئ من الكأس يدفع المرء للاعتقاد أنه يحب السفر؟
أم أنني أحب حياة الترحال فعلاً؟
لماذا تكون الفكرة الأولى التي تشغل بالي فور وصولي في محطة ما، ’أين ستكون محطتي التالية‘؟
ماذا لو كان لي بلد يعترف بي وأستطيع أن آوي إليه حين أتعب من السفر؟
كنت قد كتبت يوماً أنني أحيى حياة من لا عنوان دائم له. حياة شخص لا يعلم متى تصله مذكرة مفادها أنه أصبح عبئاً على عنوانه المؤقت وعليه أن يرحل. هي حياتي كحياة أي لاجئ فلسطيني أتى أهله من بلاد لم نعد نسمع اسمها بعنفوانه إلى في القصائد المحرّمة. ولدت أنا و إخوتي في بلاد “الشتات” وترعرعنا هناك بين أناس لم يتركوا لنا خياراً إلا أن نحبهم اعترافاً بجميل لهم علينا. وكما أحببناهم لم نقدر يوماً أن نتجاهل حبنا لمعالم كانت أول ما أبصرته عيوننا في هذه الدنيا. أينما وُجدنا عشقنا حقولاً كنا نرى فيها حقول يافا، وساحلاً كلما داعب وجوهنا بنسائمه الرطبة ذكّرنا بسور عكّا، وعندما صلينا في مساجد عمرها التاريخ أبت إلا أن تحرك فينا شوقاً لحرم إبراهيمي محاصر حتى الاختناق ومسجد أقصىً حزين، وعند كل كنيسة نجنح بفكرنا فنزور كنيسة المهد بماضيها الضارب في بدء التأريخ وحاضرها في احتضان المقاومين الذين انتهى بهم المطاف في منافي العالم.
كان اندماجنا (النفسي) بأراضي “الشتات” أمراً حتمياً لم تحل دونه كل الدعوات المنادية إلى عدم دمج اللاجئين ضمن دائرة المواطنة لتجنب العبث بالتركيبة الطائفية أو العرقية أو العشائرية في الدول المضيفة، غير أن تلك الدعوات نجحت بالفعل في الفصل القانوني والحقوقي بين اللاجئ وبين الأرض التي يقيم عليها فلا يجرؤ بعد ذلك فلسطيني على مناقشة أعطيات البلد المضيف من منطلق أنه مجرد ضيف على تلك الأرض و من غير اللائق أن يطلب أكثر مما يتكرم به عليه صاحب البيت.
عشنا سنين، ونعيش، وفق منطق الضيف والمضيف، ولا ضير. مشكور كل من استضافنا وسامح الله كل من طردنا أو منعنا من دخول أرضه. سيادة دُولكم معتبرة وقراراتكم السياسية وخططكم المستقبلية مكان تقدير واحترام ونربأ بأنفسنا عن “التدخل” فيما تروننا غير أهل له. ولكن وبالرغم من كل ذلك فقد تمكن اللاجئون من الحفاظ على رابط وثيق مع من عاشوا وتعايشوا معهم؛ مع الناس؛ مع الشعب. تبادلوا دعوات الأفراح أحياناً والعزاء أحياناً أخرى. اختلطت لهجاتهم وتبادلت النساء وصفات الطبخ حتى غاب منطق الضيف والمضيف في العلاقة بين الناس أنفسهم وانحصر في العلاقة الرسمية بين اللاجئ والدولة.
في سوريا، عاش أبي ومن قبله جدي حربين ضد الكيان الصهيوني، وأنا بدوري عشت التوترات التي شابت علاقات سوريا مع الجوار. أذكر أزمات لبنان، أذكر تماما حرب الخليج، ولا تغيب عن ذهني أزمة المياه مع تركيا. عشت كل ذلك كواحد منكم، موقفي كان موقفكم وجرى علي ما جرى على جميعكم. كنت أظن أن ذلك كله –إذا ما أضيف إلى كوني درست مناهجكم وشاركتكم ملاعب طفولتكم وحياتكم الجامعية- يجعلني مؤهلاً إلى أن أبدي رأيي في بعض قضاياكم أو أن يسمح لي، على الأقل، بالتعبير عن مشاعري إزاء ما يحدث مؤخراً في سوريا الحبيبة.
أنا أعلم علم اليقين أنه لن يُسمح لي -بلغة الأوراق الرسمية- بأن أكون سورياً كما أن أخي الفلسطيني في لبنان لن يكون يوماً لبنانياً، ولكن … يبدو أنني أفرطت في التفاؤل والاعتقاد بأنني قد أكون واحداً منكم. كان خطأي أنه لم يساورني شك في أنكم ستقبلونني كسابق عهدكم، كأخ حرص كثير منكم أن يستشيره ويسمع آراءه حول أمور وقضايا عديدة، وكَثُر أن اختلفنا في آراءنا إلا أن ذلك لم يفسد للود قضية. غير أن الحال كان غير الحال هذه المرة، إن المتغير اليوم هو طريقة التعامل مع الرأي الآخر أو “الرأي الضيف” إن صحّ التعبير. أتفاجأ اليوم باقتحام مصطلح الضيافة للعلاقة بين اللاجئ وإخوته مواطني الدولة المضيفة. أتفاجأ اليوم عندما أطرح وجهة نظري فأواجَه بردود صريحة وضمنية ومضمرة تدور كلها حول محور “قاعد بحضنّا وعم تنتف بدقنّا”.
لا يا عزيزي، أنا لا أنتف بذقنك. أنا أتكلم فقط لأن مصلحة بلدك الغالي تعنيني كما تعنيك ولأن أي خير سيعم سوريا سيعود بالنفع علي و عليك أيضاً، ولا تنس أننا سويّة سنتحمل كل العواقب لأي شرّ قد يحدث لا قدّر الله، إلا إن قرّرتَ بالطبع أن ترسل لي مذكرة “غير مرغوب فيه” .
مضيفي الكريم…
أنا في سوريا أتمتع من حقوقك بالحقوق الإنسانية فقط من تعليم وعمل وامتلاك مسكن وما إلى ذلك، غير أنني لا أملك حقوق المواطنة التي تمتلكها (والتي لا أسعى لامتلاكها أصلاً) ولا مشكلة لدي في ذلك على الرغم من أني مكلّف بكل ما عليك من واجبات. ولكن أرجو منك في المرة القادمة، إن لم يعجبك رأيي أن تنتقده كأي رأي آخر من حيث هو رأي مجرد عن صاحبه، فربط رأيي بي بهذه الطريقة إنما يضع نهاية للحوار بطريقة غير حضارية على الإطلاق، حيث أنه يسلبني حقاً آخر من حقوقي الإنسانية ويأسر حريتي في التعبير. والأهم من هذا كله أنه يعكس ارتباكك وضعف إيمانك بما تقدمه أنت من أفكار ولن أذهب بعيداً فأقول “خيانة للخبز والملح”.
أخوك اللاجئ
———————
by NationalityZero