رسالة مفتوحة لأجل سوريا
حضرة الأمين العام السابق للأمم المتحدة السيّد كوفي عنان
السلام عليكم ورحمة الله،
أود أولاً أن أعبر من خلال هذا البيان العلني عن الشكر الجزيل لقبولكم هذه المهمّة الحسّاسة جدّاً بهدف خلاص سوريا وتوطيد السلام في المنطقة. نتمسك بمبادرتكم كما يتمسّك الغارقون بطوق النجاة! حضرتكم أحرزتم نجاحاً بتجاوز العائق الروسي المتمثل برفض أي اقتراح يتضمن تغييراً ديمقراطياً حقيقياً.
سوريا يمكنها ويتوجب عليها في المدى البعيد أن تشكل عنصر اتّزان بالنسبة للإشكاليات الإقليمية، بدل أن تصبح سرطاناً مفكِكاً. فأغلبية السوريين، بحسب إدراكي، يفكّرون بمنطق تعدّدية الأقطاب المتوازنة أكثر منه بمنطق حرب باردة جديدة.
تقليدياً يقف الشعب السوري ضد الامبريالية ولكنّه أكثر من ذلك بكثير يدعم ويفضل خلق قطب عربي يمثّل رغبة هذا الشعب بالتحرر وحقّه في تقرير المصير. تفترض هذه المشاعر الشوق إلى الديمقراطية الحقيقية والاعتراف بكرامة كلّ من المكونات الثقافية والدينية لهذا المجتمع بالإضافة إلى الاعتراف بكرامة كلٍّ من أفراده.
يتسم الحراك الإقليمي اليوم بإشكالية صعوبة التعايش بين الشيعة والسنة، نتيجة الصراع القائم بينهما، وهذا يولِّد ضررًا جسيمًا للأقليات الأخرى وخاصة المسيحية منها. تميّز الربيع العربي بمطالبة الشبيبة بالحقوق والحريات، لكنه مُعرَّض للانزلاق إلى العنف الطائفي خاصةً إذا ما تنصّل المجتمع الدولي من مسؤولياته فسيطر التطرف.
السيد عنان، تدركون، حضرتكم، أكثر من أي شخص آخر أن الإرهاب الدولي “الإسلامي” هو وجهٌ من بين آلاف الوجوه لـ “اللاشرعية – الغامضة” العالمية العاملة في تجارة المخدرات والأسلحة وتجارة الأعضاء البشرية والرق الأبيض وغسيل الأموال والثروات الطبيعية … الخ، الأمر الذي يوضّح أن المستنقع المخابراتي العالمي المتشعّب يتجاور مع فلك الأنظمة الإجرامية التي تتصف أيضا بجوانب إيديولوجية دينية أو غير دينية.
يدهشنا أن أعلى ممثلي الأمم المتحدة وخلال أيام قليلة جداً تبنّوا فرضية مسؤولية القاعدة عن التفجيرات “الانتحارية” في سوريا. وإذا تبنّى العالم الاعتقاد القاتل للحرية والقائل إن الضرورة الوحيدة هي قمع الإرهاب، فلا يبقى سوى انسحاب مراقبي الأمم المتحدة غير المسلحين، مما يترك المجال مفتوحاً أمام القمع الذي يصبح حينئذٍ، بعيون الرأي العالمي، بمثابة “الشر الأصغر” مقارنة بِشَرِّ التطرف. يصبّ استمرار حرب أهلية متوسطة الشدة وطويلة المدى في مصلحة القوة النووية والطائفية الإسرائيلية مشكلاً بذلك نتيجة جانبية لنظرية محاربة الإرهاب. إذا أضفنا لهذا أن “العرب” ليسوا ناضجين ثقافياً للديمقراطية الحقيقية، كما يدّعي البعض، فعندئذٍ تخسر الحرية الرهان! وفي هذه الحالة لن يبقى من بديل سوى تقسيم البلد على أساس طائفي، ولعلّ دور مراقبي الأمم المتحدة سيقتصر عندئذ على اجتناب المجازر الوحشية حتى لا يتكرر ما حدث في البوسنة بشكل مُعيب للمجتمع الدولي.
بسبب بعض التجارب غير الناجحة لمراقبي الأمم المتحدة، في كثير من الأزمات السابقة، يبقى تفاؤلنا مشروطاً بظهور إرادة تفاوضية في مجلس الأمن وداخل سوريا، مما يتطلب مؤازرة ملتزمة وواسعة من المجتمع المدني الدولي للمجتمع المدني المحلي. كما أن ضمان احترام وقف إطلاق النار وحماية المدنيين من القمع لأجل السماح بإقلاع جديد للحياة الاجتماعية والاقتصادية يحتاج ثلاثة آلاف مراقب أممي لا ثلاث مائة. من الأمور الملّحة إلغاء العقوبات الاقتصادية العامة المفروضة على البلاد ككل، فهي عقاب لأضعف الشرائح الاجتماعية.
ثمة حاجة لقدوم ثلاثين ألف “مرافق” لاعنفي من المجتمع المدني العالمي لكي يساعدوا على الأرض في انطلاق الحياة الديمقراطية بشكل متجذّر محلياً، فمن الواجب دعم إقامة تنظيم حكومي مؤسّس على مبدأ حكم الدوائر التوافقي (Subsidiarity)، مع احتمال الميل إلى تبنّي الهيكلية الفدرالية المُراعية لأهم الخصوصيات الجغرافية (إنّما الفدرالية تنفي التقسيم!). إنّ إعطاء الثقة لحكم السكان المحليين الذاتي والسماح لهم بتحديد مصيرهم هما شرطان لإعادة سيادة القانون ومكافحة أي شكل من أشكال الإرهاب دون الوقوع من جديد في أزمة القمع الكلي والطائفي.
يشكّل تأسيس لجان محلية تعمل من أجل المصالحة تحت حماية المراقبين وبتنسيق مع منظمات الأمم المتحدة المتخصصة حاجة ماسة وضرورية، وهناك حاجة أيضًا إلى لجان تختص في البحث عن المعتقلين والمخطوفين والمفقودين من جميع الأطراف المتصارعة، كما يلزم طرح مشكلة إعادة التأهيل الإنساني للشبيبة التي انجرفت إلى الانتماء لمنظمات إرهابية وإجرامية.
حضرتكم أكدتم أن توطيد السلام يتطلب آليات سياسية تفاوضية. والسؤال هنا، هل يمكن أن نتصور حصولاً لهذا التفاوض بطريقة فعالة دون تغيير في بُنى النظام، خاصة حين تشكّل الحكومةُ مجرّد واجهة وليس النظام الحاكم سوى هيئة مطيعة لنواة غامضة من زعماء كبار؟ لا بد من إنقاذ الدولة فإنها ملكية الشعب ولكن أولاً يجب عتقها.
السيد عنان العزيز والمحترم، تشكل مبادرتكم مرحلة نوعية في تاريخ ممارسة المسؤولية الدولية لحل النزاعات المحلية، وإن الحضور السلمي للأمم المتحدة اليوم في سوريا يشكل فعلاً نبوياً على طريق غاندي، وقيمته تفوق الأزمة الآنية المحلية التي تقصد مبادرتُكم حلّها. لتكن الأولوية لحماية حرية الرأي والتعبير في المجتمع المدني السوري فدون ذلك يستحيل السعي إلى الأهداف الجوهرية لبناء الوئام الوطني.
مع التقدير والشكر
باولو دالوليو – الراهب بولص
تمّ تعريب النص الأجنبي بإشراف من المؤلف بتاريخ 25/5/2012