خالد كنفاني
—————————–
كل شيء ينزف اليوم في سوريا…
البشر والشجر والحجر… لم يعد النزيف مقتصراً على فئة أو مجموعة أو طائفة أو عشيرة…. الجميع سواسية أمام الموت، ولا فرق بينهم.
الأسد أو نحرق البلد، وها هو البلد يحترق، ولا يزال نيرون يطل من على شرفة قصره ليرى الدخان يعلو ويغطي زرقة السماء السورية وبياض غيومها.
“فساحة المجد لم يخطر بها أحد… إلاك إلاك والباقون لا أحد” هذا أحد أبيات مديح “القائد الخالد” والشاعر هنا يضع عبارة “الأسد أو لا أحد” في صيغة شعرية أراد منها فناء شعب في فرد وحلول أمة في رجل، ولم أعجب سوى من فقهاء السلطان الذين لم تثر حفيظتهم تلك الأبيات بينما تم حرق الحلاج حياً لقوله بالحلول، والتشبيه أوضح من أي بيان.
“لا حياة في هذا القطر إلا للتقدم والاشتراكية”، مقولة “خالدة” أخرى من مقولات “القائد الخالد”. كانت تملأ شوارعنا وساحاتنا ومدارسنا على طريقة “فأينما ولّيتم فثمّ وجه قائدنا”. ولكن حدث مع النظام ما حدث مع الفقهاء عندما قرؤوا “ولا تقربوا الصلاة” وسكتوا عن الباقي. فالنظام قرأ “لا حياة في هذا القطر” وتوقف هنا. كان الدم هو عنوان مرحلة “التصحيح” ثم جاء الموت السريري بعد “التطهير الثوري” ليقضي على أجيال بأكملها في أروقة الدوائر الحكومية وعلى أعتاب المؤسسات الاستهلاكية التي كانت تستهلك حياة المواطنين من أجل قطعة لحم أو شيء من السكر. وهاهو الفصل الختامي يعود إلينا بتطهير الوطن من “الجراثيم” وتطبيق كافة المقولات السابقة عبر إحراق البلد وإفناء الشعب وتهجير الناس، وعلى مبدأ “من سنّ سنّة حسنة فله أجرها” فالأبناء يكملون ما قام به الآباء بل ويتفننون بأعمال القتل والذبح والتعذيب ليزرعوا “حب القائد” في قلوب الناس ولكن بسكاكينهم وليس بلسانهم.
لن نستغرب كثيراً أعمال التدمير والقتل التي تجري في كل شبر من سوريا، فمن يقومون بذلك لم يتعبوا في بناء هذا البلد، بل على العكس أفنوا جهودهم في نهبه وسرقته وتصفية دمه حتى آخر قطرة. كانوا يقضون النهار في السرقة ويقضون الليل في عدّ الأموال. كانوا مطمئنين إلى أن هذا الشعب قد استكان إلى الأبد مثلما سيبقى القائد إلى الأبد، ولهذا كانت الصدمة كبيرة عندما طالب أهل درعا لأول مرة “بإسقاط الفساد”. أي فساد؟ هل هناك فساد في سوريا؟ ألا يكفي أننا نسمح لهم بالحياة؟ هل هذا هو رد الجميل؟ أسئلة كثيرة قفزت في وجه شركاء السلطة والثروة. توقفوا قليلاً عن عدّ النقود وسنعود لاحقاً بعد أن نربّي هؤلاء “الإرهابيين”. ولكنهم لم يعلموا أن “إرهابيي” اليوم ليسوا كسابقيهم، فهؤلاء قرروا منذ اليوم الأول “الموت ولا المذلة” والتهديد بالاعتقال أو القتل لم يعد أمراً يرهب أحداً.
رغم كل الهجوم على روسيا اليوم وبأنها تدعم الإرهاب الدموي في سوريا فإننا لا يجب أن نعتقد ولو للحظة واحدة بأن “أصدقاء سوريا” يريدون لها الخير ويطلبون صداقتها فعلاً. فأصدقاء ليبيا اتخذوا قرارهم منذ اللحظة الأولى بالتخلص من حليفهم (تحت الطاولة) معمر القذافي. قتلت إسرائيل الفلسطينيين بأسلحة أمريكية ولم تنزعج الجامعة العربية ولا المؤتمر الإسلامي ولا البرلمان العربي ولا سوزان رايس بالطبع.. ولهذا فإن لعبة تبادل الأدوار تتم اليوم بحيث تقف روسيا والصين خلف النظام بينما يقف الغرب أمامه ويتقاذف الطرفان الكلمات والخطابات والمؤتمرات بينما سوريا في المنتصف تحترق. وكما “سقى العرب فلسطين أحلاماً ملونة وأطعموها سخيف القول والخطبا” (بكلمات نزار قباني) فإنهم يقومون بالشيء ذاته مع سوريا مثلما فعلوه مع العراق والصومال والسودان. هم لا يتقنون سوى الكلام وعلاقاتهم مبنية على المجاملات والمداورات. ومثلما خاضت سوريا الحروب بالشعارات والخطابات يأتي اليوم من يبيعها الشعارات والمحاضرات والتنظيرات دون أن يبيعها فعلاً حاسماً. فالكل يخشى أن يرتد الأمر عليه يوماً ما، ولا أحد له مصلحة في سوريا ناهضة قوية، والجميع يرى البلاد تنقسم وتتفتت وتقتتل ويتركها لقدرها المحتوم تغرق في مستنقعات بلا قرار.
يوماً بعد يوم يلوح من بعيد لهب شمعة سقوط النظام، ولكن هذه الشمعة ليست نهاية النفق. فالعمل المطلوب بعد سقوط النظام ليس إعادة إعمار الأبنية المهدمة وحسب، فهذا عمل سهل، ولكن عملية إعادة النفوس هي ما سيأخذ الوقت الأطول والجهد الأصعب. بعد هذا الحريق الوطني الهائل وتراكم الأحقاد في النفوس والرغبة في الانتقام بأي شكل لن يكون من السهل إعادة إحياء مبادئ التعايش بين السوريين على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم. وعمليات إضفاء الطابع الرومانسي على الثائرين أو على الشعب بعموميته لم تعد لها أية انعاكاسات على الأرض. كنا قد تحدثنا في مقال سابق عن “أسطرة الثورة” بمعنى تحولها إلى أسطورة. ومع اتفاقنا مع الرؤية القائلة بأن الثورة ضد هذا النظام هي من أصعب الثورات في التاريخ الحديث نظراً لدموية النظام وإجرامه المتسلسل عبر كل المراحل التي حكم بها سوريا، ولكن هذا لا ينفي أبداً أن العمل الشاق سيكون بعد سقوط النظام وليس الآن فقط. يتم دفع السوريين اليوم إلى عنق الزجاجة بحيث لا يبقى أمامهم هدف غير سقوط النظام وهو هدق متحقق بلا شك، ولكن طول المكوث في عنق الزجاجة لا يعني سوى ضبابية وأحياناً انعدام الرؤية لما هو خارج الزجاجة وهو ما يؤزم الأوضاع ويفجر الموت في كل مكان.
لن تكون هناك فائدة في إعادة إعمار الأبنية والجدران بينما لا تزال النفوس مدمرة ومهدمة. وتبدو مؤتمرات إعادة الإعمار في بعض النتديات الخارجية دعاية رخيصة لشركات المقاولات والتي أصبحت تتصيد الحروب هنا وهناك من أجل زيادة ثرواتها وكأن الشركات العالمية قد اقتسمت الثروة، شركات السلاح تدمّر وشركات المقاولات تبني والخاسرون هم الشعوب هنا وهناك. وبينما يعمل المعارضون في الخارج بشكل حثيث على التنقل بين كافة أقطار الدنيا بحثاً عن المؤتمرات واللقاءات، يضيع السوريون تحت سنابك الخيل التي لا تبقي ولا تذر، ولن نلوم المعارضة كثيراً فهي لا تختلف عن العقليات الاستبدادية كثيراً كما أنها وبكل الأحوال ليست لديها أية قاعدة شعبية لا على المستوى السياسي ولا على المستوى الاجتماعي، فكثير من هؤلاء لم يقف يوماً لساعات من أجل تفاحة ولم يذهب عشرين مرة لتسجيل ابنه في الجامعة. ونحن نعترف هنا بجهود وتضحيات الآخرين منهم ممن قضوا أياماً سوداً تحت التعذيب وفي المعتقلات من أجل مبادئهم ودفاعاً عن حريات طالبوا بها للشعب السوري بأكمله.
لن يسمح السوريون بعد اليوم لمن يدفعهم للبكاء والحزن، فهم يموتون اليوم ليكونوا بذاراً لمستقبل مشرق ولكي يفرح أولادهم وأحفادهم. كل دموع اليوم ستسقي أشجار الأمل والحلم سيكبر كل يوم.
آخر الكلام: يقول محمود درويش:
يا دامي العينين و الكفين !
إن الليل زائل
لا غرفة التوقيف باقية
و لا زرد السلاسل !
نيرون مات ، ولم تمت روما …
بعينيها تقاتل !
وحبوب سنبلة تجف
ستملأ الوادي سنابل ..!
تعليق واحد
تنبيه: سوريا… الجرح المتجدد . . بقلم: خالد كنفاني « مختارات من الثورة السورية