—————————–
صوت ما، أقف بجانب حائط، ليس من الممكن أن أكون وراءه لسبب بسيط هو أنني لا أعرف من أين يأتي الرصاص بالضبط.
“تس”، اعتقدت أنه صوت قناص على أية حال، تراجعت عن مكاني، لا أعرف أين وجهت عدستي بالضبط.
تمر ثوان، يعود الشبان ليتجمعوا تماما حيث كانوا، يتقهقر الشبان، رصاص كحبات مطر غزير على الصخور، تتعالى الأصوات.
شهيد.
كيف كان لي أن أدرك أنه شهيد، لا أدري حقا.
الوقت: صيف ما.
أذهب إلى العربة المحملة بكمية هائلة من الجبس، أقترب، أضع يدي على الجبسة و أبدأ بالضرب بخفة عارف. أتركها، أقوم بذات الأمر مع التي تليها، هكذا حتى “أطمئن” للجبسة أمام ذهول، ثم ضحك أختي.
قلت لها: إن كنت لا أعرف ماذا أفعل، فعلى البائع على الأقل أن يصدق أنني أعرف ما أفعل!
بعد فترة طويلة، سنوات ربما، كتبت، و كان مما تطرقت إليه موضوع الاعتقال و الموت، حاولت أن أتخيله تماما كما حاولت أن أتخيل أي شيء آخر، أن أتخيل معرفتي بالجبس، و أن أتخيل معرفتي بالاعتقال و الموت، و بمنتهى ما وصلت إليه غرائزي و مداركي، كتبت، بسلاسة.
بعد سنوات، بدأت أعرف ما معنى الاعتقال. أصبح لدي من الروايات ما يكفي لكتابة مؤلف عن المعتقلات.
صرت أرى الجرحى يفترشون الشوارع، كما افترشت شوارع دمشق هائما على وجهي بحبها، سائحا بطرقتاها لا ألوي على شيء، إلا أن أمسح بنفسي ما وصلت إليه من المدينة.
شهيد.
تصرخ الجموع هذا اللفظ إن كان الشخص استشهد أو لم يستشهد، نعم، المصاب في القدم و المصاب بالرأس يعامل عند حمله ذات المعاملة.
شهيد.
لكن ما يختلف في الأمر هو أن الشخص إذا ما استشهد لن تجد أحدا يلح عليه بنطق الشهادتين.
شهيد.
أصبحت أميز الموت، من بعيد، أميز الإصابة القاتلة من الإصابة غير القاتلة، أميز، من العينين، إن كان هذا الشخص سيبقى معنا أم أنه سيغادرنا قريبا.
هل أصبحت أميز الموت، بهذه الفداحة؟
كان من الممكن أن يكون أي واحد منا، أي واحد، لماذا هو، لماذا الآن، من هو، و كم من حكاية انتهت، أو علقت، أو لم تبدأ، لأنه استشهد. لعلني أترك هذا السؤال للتاريخ أن يجيب عليه. أو للمستقبل. أو لي.
لقد ذهب، و ترك وراءه أسطورة، أغلق كل أبوابه و فتح أمامي باب الأسئلة.
أتجه بالكاميرا صوبه، تماما حيث صوب القاتل بندقيته، أوجه عدستي.
أعود لأحظى بلحظات بيني و بين الشهيد، و الشعب، أسحب الصور و أبدأ بتغبيش الوجوه، واحدا تلو الآخر، أدقق في هذه الملامح، إنها تحمل الكثير، الكثير جدا، و بتغبيشها سيضيع نصف الحكاية.
بالعودة إلى الوراء، قليلا و كثيرا، أجد أنه من المثير للسخرية، و التفكير، أنه و بعد كل الأشياء التي اجتزتها في حياتي، أن تكون نهايتي هكذا، مجرد طلق ناري في الرأس اختارني بمحض صدفة ليفض مظاهرة، لا أكثر، و لا أقل، و لربما لو قتلت بهذا الشكل سأقلب على ظهري ضاحكا، بعد الموت.
هل تنتهي حياة الإنسان بهذه البساطة؟
و ماذا عن الأم التي تنتظر في المنزل، و قد أعدت للشهيد وجبة الطعام التي يفضلها، أو أعدت له وجبة الطعام التي لا يطيقها لأنه أزعجها البارحة و لم يحضر لها قطعة الغسيل من عند جارتها أم سليم فقررت أن تعاقبه على ذلك، بعد أن دعت له و رضيت، عنه، و ضمته، قبيل خروجه من المنزل؟
و ماذا عن الحبيبة التي تنتظر بفارغ الصبر قبلة، جسدية أو روحية، أو كلتيهما، منه، أو تنتظره لتعاتبه؟
و ماذا عن أبيه الذي سيعطيه مخزونه، من المال أو العظات؟
و ماذا عن ابنه الذي فقد أن يناديه باسمه، كبيرا كان أو صغيرا؟
و ماذا عن أصدقاءه؟ هل أصبح مكانه في لعبة الورق خاويا؟
و ماذا عن أحلامه هو؟ ألم يكن يحلم بشيء أبدا؟ أم أن لديه الآن الوقت الكافي لير الغد و يحلم بما لن يكون؟
لبراءة الأطفال طعمة خاصة في التعبير، يشير الأطفال إلى السماء حينما تسألهم عن الموتى.
إنني اليوم أعرف أننا نولد من رحم الأم، و تعود أجسادنا إلى رحم الأرض. يا للأنثى، و يا للغة.
لكن أتساءل، ما هو سيناريو الموت الذي لن يضحكني، بعد مماتي، إن حصل لي؟
هل تبدو حياتنا عبثية لهذه الدرجة؟
( صورة الشهيد أحمد صادق حلاق مضرجا بدمه، و الذي استشهد يوم الجمعة 6-7-2012 في حي السكري إثر إطلاق النار عليه من قبل عصابات الأسد.
تحذير: الصورة مؤلمة جدا +18
http://on.fb.me/RMZiRN )
تعليق واحد
تنبيه: سيناريو الموت…. « مختارات من الثورة السورية