كلما نظر عمر من حوله وجد شبحَ ريما يطاردهُ. و لا يسعه اليوم إلا أن يتساءلَ و يتساءلَ لماذا هجرته و أعادت له خاتمه. كلٌّ ما يذكره هو أنه أول البارحة تلقى اتصالا من مهجة قلبه لتقول له أنها تنتظره في الحديقة حيث كانا يلتقيان في الصباح ليتبادلا همساتِ الحب و الغزل قبل أن يفترقا كل إلى عمله.
ربما لم يكن عمر واثقا من أي شئ في حياته و لكنه كان واثقا تماما من حبه لريما. تلك الفتاة الرقيقة التي كانت بسمتها تتكشف عن أسنان صغيرة نظيفة و تنتج عن غمازة محببة على خدها الأيمن و هي الفتاة التي كانت دموعُها تكشف عن حُفرٍ في قلبه لا تملؤها إلا عودة البسمة إليها. تلك الفتاة التي كان يحبُّ بكل كيانه اتصلت به و قابلته في الحديقة في صباح يوم حارٍّ لتقول له باقتضابٍ أنها لا تعتقد أنهما مقدُّران لبعضهما. لم تقل له أيُّ أسبابٍ و لم تشرح له الدوافعَ و لكنها بعد أن نهضت و سوُّت تنورتها استدارت نحوه و قالت “الحقيقة يا عمر أنني سئمت و مع كل موقفٍ منك كان حبي لك ينقص حتى بحثتُ عنه في كل أرجاء قلبي و لم أجد له أثرا”.
و غادرت ريما.
و غادره معها النور.
بعد يومين من تقطّع النوم و الطَّعام و الحياة طرقت والدتُه بابَ غرفته بلطفٍ و أطلَّت برأسها لتخبره بأن أخَا ريما الصغير جاء برسالةٍ مع الهدايا التي كان عمر قد أهداها إياها في فترة خطوبتهما. وضعت أمه الحقيبة على مكتبه بجانب الكمبيوتر و انسحبت بهدوء. زاد من ألم عمر أن تُعاد إليه كل عرابين حبه وولهه فتوقف عن إخراج الهدايا من الحقيبة و بدأ بقراءة الرسالة بيد غير ثابتة.
عزيزي عُمر:
أنا آسفةٌ أشدَّ الأسفِ على جرحي إياك بهذه الطريقة المفاجئة و لم أكن أنوي أن أكشف لك عن أسبابي لِئلا أزيد من الجرح و لكنَّ عائلتي تُصرُّ على أنَّه من حقك عليَّ أن أتقدّم بأسبابي لتكونَ على علم و لا تتخبط في العتمة.
هل تذكر يا عمر حين أهانك مديركَ في المكتبِ و نصحتُكَ و نصحك أهلك بأن تترك العمل لديه؟ بقيتَ تفكر دهرا فيما إذا كان يجب عليكَ القاء أم الرحيل. لو كنتَ مكانك لما تقبلت الجلوس في مكتبه و زيادة أرباحه و التعامل معه. لكنتَ رميتُ ملفاتِه و أعماُله في وجهه و تركت العمل و صفقت الباب. و لكنك لم تفعل. أردت أن تفكر و فكرتَ و فكرتَ و ذهبتَ إلى العمل لديه كل صباح بينما كنت تقلب الأمر في عقلك. أنت سميتها ترويّا و حِسابا للمغبةِ و أنا سميتها ترددا و عدم معرفة لما تريده أو تؤمن به. و النتيجة؟ طردكَ هو من العمل عند أول غلطة قمت بها.
هل تذكر عندما كانت لمى تعود إلى بيتكم كلَّ جمعة مع أطفالها باكية دموعا مقهورة؟ كل ما كانت تريده هو أن تقف بجانبها. من كان لها غيرك بعد وفاة أبيها؟ بيتكم يتسع لها و لأطفالها و تلك لم تكن مشكلتك…مشكلتك كانت أنَّك لم تكن تستطيعَ أن تحسم أمرك. لم تكن تعرف مع من تقف و من تلوم. طلبت منها أن تعود إلى بيتٍ تُقهر و تهان فيهِ كلَّ يوم ريثما تقابلُ المحامينَ و تستشير المطلقين و تقلب الأمرَ على مَهَلٍ في رأسك. و النتيجة؟ طِفلٌ آخر و من ثمَّ طلَّقها هو ليتزوَّجَ سكرتيرته و عادت إليكم مصابةً بالإكتئاب و الأهمُّ من ذلك كلِّه أنها لم تعد تكلمك رغم أنكما تقتسمان سقفا واحدا.
و نأتي الآنَ إلى القشَّةِ التي قصمت ظهرَ البعير: الثَّورة. كُل شُبَّانِ و شابّاتِ الحارة يخرجون ملثمين حاملين أرواحهم على أطراف أناملهم و أنت لا زلت لا تدري مع من تقف. كنت تقتلني و أنت تقول لي أن يجبُ التَّروي. كُنتَ تُؤلمني و أنت تتهم المتظاهرين بتخريب البلد و قضِّ المضاجع بتكبيراتهم اللا حضارية. كُنتَ تذبحني و أنت تعظني بعدم التدخل و لا حتى بالكلام لمساندة الثورة و الثوار خوفا من بطش النظام. أتدري أنه لم يعد بِإمكاني النظرُ إليك؟ كُنت أنا و أخي نخرج كل جمعة لنهتف ملءَ حناجرنا مساندةً لدرعا و إدلب و حمص و حماة و لم أجرؤ على إخبارك لئلا ترتعب و تبدأ محاضراتك عن وجوب الهدوء و التغيير التدريجي و إعطاء الرئيس مهلة للإصلاح. أيُّ إصلاحٍ و أولادنا يقتلون؟ أيّ انتظار و قُرانا و مُدننا تُقصَفُ بِأيدي أولادها؟ و المفارقة هي أنَك في الماضي كنت تتململ من الشوارع المليئة بِالحُفرِ و رامي مخلوف اللّذي استملك سوريانا. كُنت تتأفَّفُ من تَخلُّفِ السَوريين و تَأمَلُ بهجرِها إلى كَندا لتعيش المساواة في الفرص و الديمقراطية. و سؤالي هو: هل تستحقُّ أنتَ الديمقراطيُّة؟ هل من يقف على الحيادِ متفرِّجا يستحقُّ أي تغيير إيجابيٍّ يُعطى له على طَبَقٍ من فضَّة؟ أو فلنقل على طبقٍ مُثقُلٍ بالدم الأحمر القاني؟
في النهاية أتمنى لكَ كُلَّ الخير في حياتك فَأنتَ شخصٌ جيدٌ و مُجتهدٌ و أقدِّرُ طيبة قلبِكَ و استقامةَ طريقِكَ و إن كُنتُ لا أجد هذه الصفاتِ كافيةً لي شخصيامع انعدامِ موقفٍ في المواقفِ الصَّعبةِ و دونَ إحساسٍ بألم و معاناة الآخرين و لعلَّ غيري تقدِّرك أكثر.
أخلص التمنيات
ريماملاحظة: أخي وِسام مختفٍ منذ البارحة و نظن أنه في ضيافة الأمن. ادعُ له…..أو لا تتعب نفسك.
بقلم: RamaPanorama