بقلم: بشار الخلف
لم تستطع خيوط أشعة الشمس المتسللة من ثقوب ستائر الغرفة ايقاظه كما فعلت كلمات أغنية السيدة فيروز الأقرب إلى قربه (وحدن).
يتململ كثيراً قبل أن يفتح عينيه ويبقى مستلقياً وهو يتأمل ورقة الروزنامة على الجدار 30/6/2012 يبتسم بينما يسمع أصوات العائلة في الخارج، على الارجح هم منهمكين بالتحضيرات.
يلتفت للطرف الاخر من السرير، وعلى الاريكة المقابلة يتأمل زيه الذي حضرته له والدته بطريقة مثالية لا يمكن أن تكون أفضل من ذلك. يبتسم وينهض من سريره بهدوء، يتسلل من المنزل كلص لا يريد أن يراه أحد وفي رأسه فكرة خطط لها مسبقاً بأن يمضي جل ساعات نهار هذا اليوم المميز يتجول على الأماكن التي يحبها، لربما كانت فكرة مجنونة في مثل هذا اليوم ولكن هكذا نحن البشر نحاول دائماً أن نهرب من توتر أهم لحظات حياتنا بطرق مجنونة.
نزل السلالم وخرج من البناء لتستقبله في البداية رائحة الياسمين المتدلي على سياج بيت جارهم العجوز أبو حسان، يضحك ضمناً بينما يتذكر كيف كان قبل سنوات قليلة يتعرض لتوبيخ أبو حسان كلما رأه يلعب كرة القدم قريباً من السياج خوفاً على ياسميناته، تذكر تلك الاوقات التي كان يمضيها مع صديقه حسان في حديقتهم التي تحتوي على أزهار الياسمين الدمشقي الذي لم يبخل يوماً بنشر عطره في أرجاء المكان المغطى بعرائش العنب، وفي الزاوية يقبع ذلك الشلال الضخم ذو الطبقات الخمس، كان هذا الشلال عملاً عظيماً لطالما افتخر به أبو حسان في ليالي الصيف عندما كان يدعوا أهل البناء لقضاء الأمسيات في حديقته.
كان أبو حسان يفضل أن يلعب حسان وأصدقائه المونوبولي أو الشطرنج على لعب كرة القدم، فبالنسبة له كرة القدم هي مضيعة للوقت في وطن لا يحصل فيه الرياضي على ما يكفي ليشتري مياه تسد عطشه جراء الجري خلف تلك الكرة.
يمشي قليلاً ليمر من أمام بقالية أبو وليد التي كانت تعج بالزبائن في ساعات الصباح الأولى ورائحة البن الطازج تطغى بطريقة رومانسية عبثية على ذلك الصوت المزعج التي تصدره المطحنة الصغيرة التي افتخر أبو وليد بشرائها قبل عدة سنوات ليقدم لأهالي الحي خدمة قل نظيرها من طحن البن بشكل يومي.
على زاوية الشارع يقع كشك أبو بسام بائع الفلافل، لربما من الأفضل أن ندعوه ب – ضرة الوالدة- حيث لم يحدث يوماً أن عاد من المدرسة دون مروره بقرب الكشك فتغريه رائحة الفلافل ليشتري ثم يدخل البيت وهو يتلذذ بها ساخنة وتغضب والدته وتردد جملته المعتادة: (من يراك يظن أنني لا أطبخ أبدا، وفي كل يوم طبخة جديدة، ). لكنه اليوم لن يشتري الفلافل، باله مشغول بأمور كثيرة لا تشمل الأكل أو الشرب.
يتابع مشيه ماراً أمام محل بلال للحلاقة، هنا اعتاد أن يحلق شعره لأكثر من عشرين عاماً، كان اسمه سابقاً (عبد) وهو من علم بلال الحلاقة إلا أنه انتقل لتجارة العقارات اثر موجة اغتصاب الغوطة وتحويلها لكتل اسمنت، بينما قام بلال بشراء المحل بمساعدة أهالي الحي الذين يحبونه، يتأمل المحل بنظرة حزن، انه مغلق منذ أسبوع، بلال معتقل، يدعوا الله أن يعيده سالماً، كانا يتبادلان دائماً الحديث عن الاوضاع السياسية، وكان بلال هو من قص شعره وحلق له ذقنه في أول موعد عاطفي له.
يتابع المشي ليدخل في شارع أخر تقع فيه مدرسته الابتدائية، يسمع أصوات ضحكات وضجيج الأطفال التي تعيده طفلاً طائشاً يجلس في مقعده الخشبي المهترئ ينتظر لحظة قرع جرس الاستراحة ليركض هو وزملائه إلى الباحة، يلعبون كرة القدم مستخدمين قطعة البلاستيك الشبه دائرية (الجوزة) والتي كانت تستخدم لجمع طرفي (الفولار)، وفي كل يوم كان على أحد ما أن يتبرع ب (جوزته) ليلعبوا فيها فيعود بدونها حيث تتعرض غالباً للكسر لاصطدامها بالجدار الذي كان يمثل المرمى.
يتذكر لحظات أيام الدراسة، توقفه ذكرى انتقاله من الابتدائية للمدرسة الاعدادية، كانت القوانين تفرض التفريق بين الاناث والذكور في المدارس الاعدادية، وكأن تلك القوانين تلقي بمقعولها على علاقاتنا، فتصبح لحظة مرور صديقته العزيزة من أمامه في الحي لا تختلف عن أي لحظة لمرور المشاة على ممراتهم لعبور الشارع بعد توقف السيارات على الاشارة الحمراء.
يتابع المشي بينما تتغلغل في أنفه رائحة الفول والذرة المسلوقة المنبعثة من عربات الباعة الجوالين الواقفين خارج باب المدرسة، يسلقونها على مهل لتكون جاهزة مع ساعة الانصراف.
قريباً من تلك المدرسة يصل لأول وأهم نقطة في جولته لهذا اليوم، انه الحي القديم حيث ما زالت البيوت القديمة المتلاصقة موجودة تطل بنوافذها على ازقة تتسع بأحسن الأحوال لمرور سيارة، يدخل الى الحي المصبوغ صباحاً براحة الخبز الطازج القادمة من المخبز القديم، دون أن تغفل تلك الأزقة عن رش نفسها بنسائم معطرة بروائح أشجار النانرج والليمون التي لا يخلوا أي بيت قديم منها، يقترب من عتبة باب خشبي ذو درفتين، يرجع للخلف قليلاً ويرفع رأسه ليرى النافذة التي لطالما وقف تحتها في الماضي منتظراً تلك اللحظات المعدودة، لحظات مسروقة دونما تخطيط من عقارب ساعة مجتمع يحفل تاريخه الأدبي بكل أنواع العشق بينما يمارس أفراده كل أنواع الكبت والقمع العاطفي، لحظات تطل فيها المحبوبة بوجهها كلي البهاء لتبرد لهيب قلبه العاشق. ولكن النافذة كانت مغلقة اليوم ولا يظهر من خلفها سوى الستائر ..
يحدث نفسه مفكراً:
لا بد أنها عاتبة على، الحق معها فقد انشغلت عنها كثيراً مؤخراً منذ أن بدأت الثورة وأصبح جل وقتي يذهب للتظاهر والتحضير له، ولكن من المؤكد أنها تتفهم الموضوع، هي قالت لي ذلك في أخر مكالمة بيننا منذ يومين.
يبتسم بينما تتلاحق الأفكار في رأسه:
مؤكد أنها سامحتني .. وكيف لا واليوم هو اليوم الذي طال انتظاره .. من الحماقة الوقوف هنا تحت النافذة فمؤكد أنها مشغولة بالتحضيرات كما حال أهلي.
يقرر المضي في طريقه إلى محطته التالية والتي كانت لربما أكثر محطات رحلته هذه جنوناً، حيث كان يريد التجول في سوق الخضار والفواكه القريب، كان لهذا السوق الكثير من الذكريات، وفيه يعمل بعض أصدقاء الطفولة ممن لم يكملوا الدراسة، ولكن صداقتهم استعادت ألقها بعد قيام الثورة ومشاركتهم بالمظاهرات.
يصل السوق ليتفاجئ بأن كل المحال مغلقة ولا توجد أية عربة أو أحد في الطريق، ينتابه ضيق من المشهد ، يسرع الخطى محاولاً ايجاد أي مظهر كان قد تعود عليه من أصوات الباعة المنادين على بضائعهم أو بقايا المياه على الارض، ولكنه لا يجد إلا محال مغلقة، يصاب بحالة من الهلع ويسرع الخطى بشكل غير منتظم كطفل أضاع يد أمه في زحمة السوق ليلة العيد.
ينقل نظره في جنبات الشارع وفي الزوايا عله يجد أحداً يخبره ما الأمر، يشاهد من بعيد رجلاً يقف وكأنه يقرأ ورقة ما على الجدار الحجري القديم للمسجد، يسرع باتجاه المسجد ولدى وصوله يبحث بنظرة سريعة في تفاصيل وجه الرجل عن أي وجه اعتاد رؤيته في هذا السوق فلا يجد ضالته، يبادره بالتحية (السلام عليكم) ولكن الرجل يبقى صامتاً ووجه يقابل تلك الورقة وكأنه لم يسمع شيئاً، يقترب هو ليرى ما كتب فيها ليجد أنها منشور نعي لشهيد، تغمره مشاعر الحزن لا المفاجأة، فقد تعودوا في الأشهر الماضية على رؤية أوراق نعي الشهداء، ولكن كان من الصعب دائماً وأبداً التغلب على الحزن المصاحب لفقدان الأشخاص.
يلتفت ليبادر الرجل الغريب بالكلام ولكنه لا يجده، تنتابه حالة من الحزن العميق، يقرر في تلك اللحظة أن يعود أدراجه لاغياً فكرة استكمال مخططه الأحمق بالتجول، حتى أنه ينسى قراءة ما يحويه المنشور مكتفياً بالعنوان (شهيد).
مرت فترة الظهيرة وما بعدها وهو شارد الذهن يفكر ويتأمل بينما كانت العائلة تزداد انشغالاً بالتحضيرات، كان في حالة من الشرود والتفكير العميقين حتى أنه لم يذكر متى وكيف دخل أصدقاءه ورجال العائلة الغرفة والبسوه زيه ليكون جاهزاً.
مر الوقت وهو ممدد على سريره قبل أن يقطع هدوء الغرفة صوت آذان العصر ودخول الرجال مرة ثانية لغرفته، يتنافسون كما هي العادة في هذه اللحظات ويتسابقون لحمله على أكتافهم ليقوموا بزفه.
تعالت الأصوات والحناجر وما إن أطلوا برؤوسهم خارجين من البناء حتى بدأت زغاريد النساء، كان صوت أمه مميزاً لا يمكن أن يخطأه أبداً من بين كل تلك الأصوات، ها هي كما عهدها تذرف دموعها مصحوبة بابتسامتها المقدسة، كان دائماً يقول لها بأن ابتسامتها هي دليله على وجود الله في هذا الكون.
وقفت على الشرفة تزغرد هي وأخواته والمحبوبة في مشهد ما كان حتى ل نزار قباني بكامل مجده الأدبي أن ينصفه بالوصف.
مرت الجموع في الحي وأصواتهم تملأ السماء، شيوخ ورجال واطفال، كانت الزفة المثالية التي حضرها كل من عرفه في الحي وكل من أحبه ويحب… يسمع البعض يتهامس مستغرباً عدم تواجد عصابات الأمن والشبيحة كما هي عادتهم بتخريب أي تجمع لأهالي الحي.
وعلى حين غرة .. صوت قوي آتٍ من على بعد أمتار قليلة خلفه، كان صوتاً اشبه بالانفجار طغى على أصوات الجميع وأسكتهم، وقع من على الاكتاف، غبار يغطي المكان بينما فقد القدرة على سماع أي شيء لبضع ثوان، يعود سمعه تدريجياً، صرخات ألم من سقطوا حوله يتخللها تشهد وصلوات:
– أشهد أن لا إله إلا الله … وأن محمد عبده ورسوله
– أبانا الذي في السماوات … ليتقدس اسمك،. ليأت ملكوتك،. لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض
أصوات أتية من بعيد:
– الله اكبر .. الله اكبر
– انفجار .. اطلبوا الاسعاف
– يا الله ما لنا غيرك ساعدنا
والكثير الكثير من الصراخ والكلام المتداخل، يحس بشيء يغطي عينيه فيمد يده محاولاً ابعاده، غطاء أبيض, يرفعه عن عينيه ليجد نفسه في وسط غيمة الغبار التي بدأت تنحسر شيئاً فشيئاً ليحل محلها مشهد لا لون فيه الا الأحمر، دماء تغطي الطريق ومن سقط فوقه من رجال وأطفال.
ممدد هو على الأرض فوق ذلك اللوح الخشبي الذي كان محمولاً عليه ومن حوله جثث من تسابقوا لتشييعه.
– من أيقظني ؟؟ (يسأل)
لا جواب يأتيه غير أصوات الشهداء يلفظون كلماتهم الأخيرة.
ينهض …. يحمل جثث مشيعيه … ويمضي
النص من تأليفي و يسمح نقله ونشره لكن يتوجب نسبه إلى صاحبه
يُحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية
يُحظر القيام بأي تعديل أو تحوير أو تغيير
كتبت القصة بتاريخ 4/7/2012
الصورة المستخدمة للفنانة Stacy Savickas بعنوان : London Bombing
وبالنهاية .. بهديها لروح كل شهيد سقط وروى بدمائه الطاهرة تراب الوطن .. لتكبر شجرة الحرية ويعيش بظلها الجميع