بالكاد تم العثور في دمشق على شارع طويل بما يكفي لنشر أكبر علم في العالم بطول كيلومترين ونصف الكيلومتر.. وكان مشهد نشر العلم السوري على الطرف الأيمن من أوتوستراد المزة مؤثراً للغاية.. فالعلم علم الجميع، مؤيدين ومعارضين ومندسين وأبواق وأغنياء وفقراء ومؤمنين وملحدين و.. كلنا.. هذا علمنا كلنا مثل ما أن هذا وطننا كلنا
هز منظر الألوف التي حضرت مراسيم نشر العلم المشاعر.. وحرك الأحاسيس.. ولحسن الحظ، تمكن المصور من التواجد في مكان مناسب جداً للتصوير، بل أنه تمكن من استعمال كاميرتي تصوير بدل الواحدة من أجل نقل صورة أفضل. لم ترتجف يده ولم يضطر إلى قطع الفيلم.. ولحسن الحظ أيضاً، لم يكن هناك وجود لمخربين أو مسلحين سلفيين بالجوار لينغصوا على المواطنين شعورهم الوطني الذي تضاعف إلى حجم العلم. وكم كنت أود لو أني معهم، أحس بإحساسهم وأغني أناشيدهم. ولكني للأسف مسافر.. ولست معهم
شيء ما جعل بعض المنفعلين وطنياً يثقبون العلم ويطلون برؤوسهم من الثقوب حاملين الأعلام وملوحين بها.. شيء ما أعطاهم الثقة لرفع أصواتهم بالهتاف.. ربما هو وطنيتهم.. وربما هو الشعور بالأمان وسط حشد لم يكن ليجرؤ على “الاندساس” به أحد من المخربين.. وربما هو التيار أو الموجة التي أسبح معها فتعطيني إحساساً بقوتي، التي هي في الحقيقة قوتها هي.. وشيء ما يجعلني أنا نفسي، عندما أسبح ضدها، أحس بتضاؤل مرعب أمام جبروتها الجارفة
هذه الموجة جعلت كل من شارك في مسيرة أكبر علم ينزل إلى الشارع بدون أن توصيه أمه أن ينتبه لنفسه.. فالموجة هي من تحميه ما دام يسبح معها.. لا يهم إن رفع صورة أو لافتة أو علماً، فهو قوي.. قوي فجأة.. قوي كما لم يحس من قبل.. يستطيع أن يصرخ ويغني ويهتف.. لن يعتقله أحد بتهمة النيل من عزيمة الدولة.. ولن يسأله أحد أين رخصة المسيرة التي يشارك بها.. ولن ينظر إليه رجل المخابرات ذو الشارب الذي يشبه السجادة نظرة مرعبة.. إنه قوي.. قوي جداً.. قوته ليس لها حدود، يستطيع حتى أن يشتم الآخرين بأقذع الألفاظ.. إنه قوي.. لن يسائله أحد.. بل إن هناك من سيشجعه على شتم الآخرين.. وهو سيشجع الآخرين على شتم الآخرين الآخرين.. ما القصة؟ إنه لم يكن أبداً قوياً هكذا من قبل.. إنه يشبه العديم الذي وقع في سلة تين
رياضة ركوب الأمواج رياضة خطيرة.. فهي تتطلب قدرة كبيرة على السباحة. ومن مارس هذه الرياضة وخبر طباع البحر يقول إن البحر غدار.. أنت تعلتي تلك القطعة الخشبية وتركب موجتك وتحس بقوة مطلقة.. ولكن الموجة سرعان ما تغير اتجاهها، فتجد نفسك في مواجهتها.. وهناك لا مكان إلا لحسن تصرفك الناتج عن الخبرة.. فإما أن تغير أنت اتجاهك مع الموجة الجديدة، وإما ان تنسحب من النزال وتعود إلى الشاطئ. لا وقت للتفكير، ولا وجود لنصف حل.. قوتك المطلقة تنقلب في لحظة إلى ذكرى مؤلمة.. وثقتك باتجاه الموجة لا تدل إلا على انعدام الخبرة بأمور البحر وغباء في مواجهة الأزمات
قوة راكبي الأمواج اليوم من قوة موجتهم.. وعندما ستنحسر موجتهم سينحسرون معها.. وليست هناك موجة استمرت بضرب الشاطئ إلى الأبد. ولكن التفاصيل غير مهمة على الإطلاق! المهم اليوم أن الموجة كانت إلى الآن قوية وعلي أن أتشبث بها ما دامت قوية.. وما دامت قوية، فأنا قوي.. لا يهم إن كنت أنا قوياً بنفسي، المهم أن أركب الموجة وأسب وأشتم وأدوس على رؤوس الآخرين، فهم ضعفاء.. ضعفاء فقط لأنهم يسبحون بالاتجاه الآخر
كتب أحد الأصدقاء بالأمس ما معناه: كم من القماش لزم لصنع هذا العلم؟ وكم خيمة كان هذا القماش ليكفي من أجل درء البرد والحر عن اللاجئين في تركيا؟ هل نحن بحاجة أكثر إلى الأعلام أم إلى الخيام؟
لم أعد أذكر تماماً الكلمات التي كتبها ذلك الصديق.. لم أعد أذكرها ولا أستطيع الرجوع إليها لأنه محاها! محاها من صفحته ومحا معها تعليقاتنا المتباينة عليها.. ربما لأنه لا يركب الموجة ولا يريد أن يقف بوجهها، وهذه حكمة.. وربما لأنه غير رأيه، وهذه حرية.. وربما لأنه أكثر حزناً بكثير مما بدا لنا من كلماته
كل هذا كان يجري على الطرف الأيمن من الشارع.. الموجة والهتاف والسعادة والتطبيل والتزمير.. لا يهم ما يجري على اليسار.. لم ينظر أحد من هؤلاء ليرى مالذي يجري على الطرف الآخر من الشارع.. هناك حيث لا موجة ولا هتاف ولا تصفيق ولا تطبيل ولا تزمير. على الطرف الآخر من الشارع كانت بعض المارة يمشون.. بعضهم ينسلون خلسة من الحشد “العفوي”.. وبعضهم محتار في أمره. ولكن، وكما قلت، غير مهم على الإطلاق ما يجري في الطرف الآخر من الشارع …
.
تعليق واحد
شو راايك تاكل …………….