خالد كنفاني
—————–
من يراقب تطور الأحداث وتسارعها في سوريا اليوم يعلم أن المسألة وصلت إلى عنق الزجاجة، فلا هي خرجت منها ولا عادت إلى الزجاجة. ورغم يقيننا بأن العودة إلى داخل الزجاجة باتت شبه مستحيلة فإن الخروج منها يبدو مخاضاً عسيراً تحكمه ظروف دولية ومحلية معقدة جداً قد تجعل من سقوط النظام انهياراً شاملاً في كافة أركان المجتمع ومكوناته.
لا يزال كل العالم تقريباً يعقد الاجتماع تلو الآخر “من أجل سوريا” وباسم “أصدقائها” و”إعادة إعمارها” بينما تتصاعد حدة الاحتقان الطائفي والأهلي بشكل غير مسبوق داخل كل المدن والقرى السورية بلا استثناء. ويبدو أن العالم قد قرر أن يلعب اللعبة في سوريا على الطريقة العراقية أو ما يشابهها من حيث إطالة أمد الأزمة مع التدمير الذاتي للدولة وتفكيكها من الداخل وذلك عبر نشر الأسلحة الخفيفة والمتوسطة بين الثائرين مع الدعم اللوجستي لهم بينما تقوم روسيا وإيران على الأقل بدعم النظام وتغطيته إعلامياً وسياسياً على الطرف الآخر بحيث تبقى هناك دائماً جزرة ما أمام الطرفين تؤدي إلى بقاء الجميع في عنق الزجاجة والذي لا يتسع لكثيرين. وهذا ما يبرر المجازر الرهيبة التي تحدث بحق بعض القرى والبلدات بينما يقوم المعارضون بعمليات قنص واغتيال نوعية لا تكون في الغالب سوى ارتجالية وغير مدروسة وتؤدي إلى نتائج عكسية في كثير من الأحيان.
تعيش سوريا اليوم على فوهة بركان بالفعل، فالساحة السورية أصبحت مفتوحة للجميع ومفتوحة على كل الاحتمالات. ويتدفق اليوم كثيرون من “المتطلعين للجهاد” إلى سوريا بعد التسهيلات الكبيرة التي تمنح لهم وخاصة عبر تركيا وهو أمر لم يعد خافياً على أحد كما أن معظم الدول الغربية وغيرها قد اعترفت بهذا الأمر. ويصل كثيرون اليوم إلى قناعة مفادها أن سوريا قد دخلت فعلاً مرحلة الحرب الأهلية وهو إقرار خطير ولا بد من دراسته وتحليله بشكل صحيح لأن ذلك يعني دخول البلاد نفق حرب ظالمة وقذرة بين كافة مكونات المجتمع السوري المهدد بالتفكك والتشرذم. يحدث هذا بينما لا تزال المعارضة السياسية تعيش ترف المؤتمرات والانتخابات الرئاسية الهزيلة وتبادل المناصب الخلبية وكأنهم ورثوا سوريا عبر ممارسات إعلامية بائسة لا تزال في ابتعاد دائم عن حركة الناس والشارع وعن همومهم وآلامهم.
وبينما تأتي التحذيرات الغربية والأمريكية من الحرب الأهلية في سوريا نجد المعارضين وعلى الطرف الآخر لا يزالون مصرين على دفن رؤوسهم في الرمال مدعين أن الطائفية غير موجودة أصلاً في المجتمع السوري وأن كل ما يجري سيتم تجاوزه في المستقبل القريب بلمسة سحرية من أعضاء المجلس الوطني أصحاب الابتسامات الصفراء والملابس الأنيقة. إن الاعتقاد بأن خدمة الثورة تأتي بالتعامي على الحقائق المجتمعية والسياسية والثقافية هو اعتقاد لا محل له من الإعراب ويعكس فجوة هائلة بين السياسيين الذين ركبوا موجة الثورة وبين الناس على الأرض. لا يمكن بأي حال التخطيط لمستقبل في هذا الوطن دون تحليل الواقع بشكل علمي صحيح وممنهج. أما القفز على الحقائق وتبرير الأحداث بما يلوي عنقها فهو لا يختلف عن ممارسة النظام الإعلامية والسياسية. فالنظام دائم الادعاء بأن ما يجري في سوريا هو مؤامرة وبأن المسألة أزمة عابرة أو سحابة صيف وأن كل الثورة هي عبارة عن فبركات إعلامية من قنوات مغرضة، وهم لا يملون من إذاعة صور لمدن وقرى في سوريا يرى فيها المشاهد الحياة طبيعية والناس تشتري حاجياتها (علماً أن معدلات الغلاء فاقت كل الحدود)، بينما تكون القنوات المغرضة تبث صوراً لمظاهرات حاشدة في ذات المدن والقرى.
بالنسبة للمواطن العادي وشبه المحايد في سوريا اليوم فإن كل ما يحدث هو عملية تغيير ولكنها تبدو اليوم أكثر دموية من أي وقت مضى. ولهذا فإن من يمشي في شوارع سوريا لا يعرف بالضبط من هو غريمه. فبينما المواطن أمام أجهزة الأمن متهم حتى تثبت براءته، فهو كذلك بالنسبة للمعارضين. فالمسألة اليوم أصبحت قائمة على الشك وانعدام الثقة بين كل أفراد الشعب وهو ما يؤسس لحالة من الفوضى العارمة وإطلاق الأحكام عشوائياً حول حق الحياة أو عقوبة الموت. ولهذا فكما يشرّع النظام لنفسه استباحة دم وحرية أي مواطن بدعوى “إضعاف الشعور القومي” و”بث الفتنة الطائفية” و”التخابر مع جهات أجنبية”، فإن كثيرين من المعارضين على الطرف الآخر يمارسون نفس طريقة الإقصاء والتشبيح الإعلامي ضد الآخرين. وتأتي دعوة أحد الناشطين منذ أيام لقتل من أسماهم “العواينية” ضمن هذا السياق التحريضي الذي يؤسس لشرعية القتل لمجرد الشبهة، ولن يخفف من تلك الدعوة القول بأنه يجب “تنبيهه مرة وتحذيره ثانية”، فهذه لا تحدث سوى في اليوتوبيا، أما في سوريا فإننا نمارس بهذا الشكل محاكمات ميدانية بحق الناس تماماً كما يفعل النظام الذي غالباً ما يسلب حياة الناس لمجرد الشك.
لم يعد مبرراً القول بأن الممارسة السياسية التي كانت شبه معدومة في سوريا طوال العقود الماضية هي السبب في هذا التخبط الذي يعيشه جميع المعارضين، وذلك لأن عدداً كبيراً ممن يدعون اليوم القيادة السياسية للثورة ويصدرون البيانات تلو الأخرى عاشوا أساساً في بلدان متطورة ومتقدمة وكانوا قد صدعوا رؤوسنا عبر العقود الماضية كلها بكتب ومقالات في نظريات السياسة والفكر الديمقراطي وإدارة الدولة، إلا أنهم وجدوا أنفسهم فجأة مطالبين بالفعل وليس التنظير والكتابة فقط، فبان عجزهم وانكشفت “عوراتهم” السياسية والفكرية والتنظيمية، وهكذا نجد كل يومين تنظيماً جديداً وهيئات مبتكرة بتسميات براقة وتحظى باستقبالات فخمة في دول المحور الجديدة ثم ينفض المولد ولا نسمع خبراً بعدها عن أحد. إن أولى الممارسات الديمقراطية تتجلى في شجاعة الاعتراف بالعجز والانسحاب من المشهد عند الفشل لأن في ذلك مسؤولية تاريخية أمام هذا الشعب الذي يدعون تمثيله. أما الإصرار على مواصلة الأداء الهزيل نفسه فليس له سوى تبرير واحد هو حب الظهور والشهرة بعد سنوات من التغييب وفقر الحال. لم يخرج علينا معارض واحد باعتذار عن تصريح أو تراجع عن بيان طوال فترة هذه الأزمة، حتى أن هناك كثيرين من المعارضين وبالأخص في الخارج باتوا منبراً للأخبار الملفقة والمكذوبة وكأن المسألة سبق صحفي ولم يعلموا بأن الضرر على الثورة كان كبيراً جداً بسبب هذه الأفعال الطائشة والمراهقة السياسية.
إن جوهر تأخر الحل في الأزمة السورية هو بالفعل انعدام البديل في الوقت الحالي، وهذا ليس إعلاء من شأن النظام أبداً، فنحن لسنا هنا في معرض الترويج للنظام أو الدفاع عنه، ولكن الحقيقة تقول أن هزالة المعارضة وتفككها وضعف شخصياتها ولدا شعوراً عاماً بالتوجس من القادم في سوريا، فلا يوجد أي من المعارضين في الخارج وبالأخص في المجلس الوطني أو هيئة التنسيق من يستطيع الادعاء بأنه سيكون قادراً على الإمساك بزمام الأمور في سوريا حال انهيار النظام. فالقسم الأكبر من هؤلاء المعارضين إما عاش فترات طويلة جداً خارج سوريا وهو بالتالي بعيد كل البعد عن شوارعها وطبائع مجتمعها التي تغيرت مع السنين (وهو ما يبدو واضحاً من الصور الرومانسية والحالمة التي يتكلمون بها عن سوريا) وإما من كان في سوريا ثم خرج بداعي الأمان على النفس أو هرباً من محاكمة وهذا الصنف لا يتقن اليوم سوى الكلام وكثير منهم أعجبتهم حياة المنافي حيث المقابلات التلفزيونية والمؤتمرات الراقية وسيجدون صعوبة كبيرة في العودة إلى وطن ممزق مفكك تفوح رائح الدم في كل زاوية من زواياه (وأرجح أن معظمهم سيطلب تعيينه سفيراً في بلد أوروبي وهو تهرّب ذكي من المسؤولية). ولا ننسى هنا الرغبة العميقة لدى القوى الكبرى ودول الخليج بتفكيك سوريا وإضعافها وهذا ليس أيضاً دعماً لمقولة النظام بمسألة المؤامرة، لأن علينا أن نميز بين المؤامرة على سوريا وبين المؤامرة على النظام. فالنظام الذي يرفع شعارات المقاومة والممانعة يقول أن سبب هذه المؤامرة هو مقاومته وممانعته، ولكننا على النقيض نرى أن المؤامرة الفعلية تكمن في إضعاف سوريا (علماً أنها لم تكن قوية) وبالتالي تحويلها إلى ساحة تجاذبات عالمية تحوّل كل الاهتمام السوري إلى الداخل وإلى فض النزاعات، هذا إذا لم نأخذ بعين الاعتبار الحرب الأهلية التي بدأت بالفعل في معظم أرجاء سوريا وهي كفيلة بإلهاء السوريين لسنين طويلة قادمة (قارن الحرب الأهلية اللبنانية والوضع الحالي للعراق منذ 2003 وحتى اليوم).
لا ينطوي هذا الكلام على تخويف أو إحباط من جهة التغيير في سوريا، فأوان خط الرجعة قد فات ولم يعد ينفع أي تغيير في مسار الثورة، ولكننا نخشى اليوم من تحول هذه الثورة إلى هياج جماعي يأكل الأخضر واليابس وعندها لن نخرج من نفق الحروب إلا بمعجزة وبعد زمن طويل. إن كل من لا يزالون مؤمنين بإمكانية الحل اليمني في سوريا واهمون، فالخيوط تم قطعها تماماً مع النظام بكل أركانه بينما اعتمد الحل اليمني على التواصل مع الطرفين لإنهاء الأزمة، ولذلك فإننا نرى أن الجامعة العربية على الأقل كان بإمكانها إبقاء التواصل بالحد الأدنى مع النظام إذا كانت تريد فعلاً إنجاح الحل اليمني في سوريا. أما طريقة القطيعة التامة فإنها دفعت بالأمر إلى حل لا يمني ولا ليبي ولا حتى يوغوسلافي. ولهذا فإن مبادرة كوفي عنان لن تنجح حتماً لأنه لا يوجد من يريد إنجاحها، لا النظام بدمويته وعنفه الصارخ ولا القوى الكبرى والصغرى في المنطقة، وإلا فكيف يستقيم دعم السعودية مثلاً لخطة عنان بينما يدعو وزير خارجيتها إلى تسليح السوريين بكل الأشكال والوسائل، وهو يعلم أن التسليح ستكون آثاره كارثية وهو لن يؤدي إلى حل سياسي من أي نوع، فالسياسة لا تتماشى مع البندقية والفكر لا يبدع تحت أصوات الرصاص.
إن عنق الزجاجة اليوم لا يخنق سوى السوريين الرابضين في وطنهم، وبينما تزداد حدة الأحوال المعيشية وغلاء الأسعار وشح الموارد يزداد في المقابل الضغط العالمي على سوريا (سواء من هم مع النظام أم ضده) كما تزداد وتيرة العنف الدموي والذي يتحول يوماً بعد يوم إلى عنف طائفي إجرامي وإقصائي لن تكون نتائجه سوى كارثية وسوداوية بكافة المقاييس. كلنا يعلم أن ثمن التغيير غالٍ جداً، ولكنها دعوة للجميع للمشاركة في دفع الثمن، أما أن يموت الناس في الخنادق بينما ممثلوهم ينعمون في الفنادق فهي إعادة إنتاج لنظام الاستغلال والتربح تحت اسم القضية. نهب النظام أموالنا وأعمارنا تحت راية المقاومة والقضية الفلسطينية وهاهو المجلس الوطني يمارس ذلك تحت راية القضية السورية ومعاناة الشعب السوري. سوريا القادمة ليس فيها مكان للانتهازيين وسوريا القادمة ليس في مكان للمنظرين. دعوا ثورتنا تنتج قادتها من رحمها، أما أنتم فطارئون على كل شيء ولم نسمع بكم فيما مضى وسنعيش دونكم فيما سيأتي.
آخر الكلام: يقول أحمد شوقي:
المُلْكُ أَنْ تَعْمَلوا مَا استَطَعْتُمو عَمَلاً وَأَنْ يَبِيـنَ عَلى الأعمالِ إتْـقـانُ
المُلكُ أَنْ تُخْـرَجَ الأَمْوالُ نَاشِطَــــةً لِمَطْلَبٍ فـِيـهِ إصْـلاحٌ وعُمرانُ
الملكُ أن تَتَلاقُـوا في هَوَى وَطَــــن تَفَـرَّقَـتْ فِيـه أَجْـنَاسٌ وَأَدْيـــانُ