يوسف أبو خضور
تشققات تلك التي تصيب أرواحنا بسبب التمدد و التقلص و نحن نعبر من مزاج إلى أخر خلال دقيقة واحدة على صفحات الفيس البوك، هذا الإنتقال الفوري من مزاج المجزرة و صور الأشلاء إلى نكتة تجبرنا على الإبتسام، و القفز من نص أدبي جميل أو قصيدة من النوع الفاخر إلى مقاطع يفترض أنها أدبية و هذر سخيف.
اعتدنا على صورة شهيد تحت مقطع من الرثاء و الغضب بسبب القتل غير المستحق، و بعد لحظات و فوق نفس الصورة ستجد عنواناً شامتاً
و سيل من الشتائم و تبريرات للقتل.
و بسهولة مفرطة لا معقولة تجد على صفحتك صوراً لنماذج من المعاناة الإنسانية و حالات التشرد و أخرى لفتاة جميلة و صور لحفلة الليلة السابقة، و عناق مع أحد المشاهير- الصور التي إحترت في تعليلها- و في خضمّ هذه الرحلة ستصادف أحداثاً و حوادثاً لا يصدقها العقل و لا تندرج تحت أي عنوان منطقي و في مقابلها تجد دعوات باردة جداً لتوظيف العقل و مبالغات في عدم التأثر و استماتة في فهم و تفسير الحدث منطقياً.
و تحت هذا كله ستجد ذلك النوع من التعليقات الثقافية الساخرة بسطر أو سطرين في محاولة لإبراز الذكاء و القدرة على إلتقاط الخفي، و جمع المتناقضات في جملة بعد أن اجتمعت على أرض الواقع.
هذا كله طبيعي و سيجد له الكثيرون تبريراً أمام هذا التنوع و التباين عند مستخدمي الفيس بوك.
لكن الغير طبيعي هو أنت، الأبله الذي يجلس تحت الشلال، هذا الإنتقال من الحار جداً إلى البارد جداً خلال دقيقة سيؤثر على قدرتك في المحاكمة، و ستحمله معك أينما ذهبت، و في الشارع لن تستغرب و لن تغضب و لن تحزن إذا رأيت بجانبك سيارة مزينة بأعلام الثورة و على أنغام أغنية ثورية تتراقص فتاتان داخلها و تعيشان حالة نشوة ثورية و في نفس اللحظة على راديو سيارتك تقول الأخبار إن النظام قصف جامعة حلب و قتل من قتل فيها.
لقد تسرب من خلال شقوق الروح هذه الكثير من قدرتنا على البكاء و الإحساس بحجم المعاناة و السعي القديم لفعل شئٍ ما، فرؤية الإبتسامة الجليدية و الغرق في التبرير و رؤية التناقضات يقتل لديك الحماسة و حس النخوة ربما.
و ما كنا ننتقده جميعاً من تضخم الأنا لدى بعض نجوم الشاشات في بداية الثورة و السطو على أدوار ليست لهم إنتقل إلينا جميعاً عبر عيوننا التي تراقبهم عن كثب و تقمصنا الكثير من الصفات التي كنا نسخر منها و ننتقدها بجنون.
فالجميع ينتقد الشخصية”س” و لا يكاد يختلف اثنان في أنّ”س” شخصية لا تملك شيئاً لتعطيه، و عندما تدخل على صفحته تجد أنّ هناك حفلة دائمة و جوقة من المعجبين تهلل لكل حركة و لكل حرف يكتبه”س”.
من هؤلاء..؟!!
هذا المشهد يتكرر لديك كل يوم عشرات المرات و تدخل في دوامة الأسئلة عن الذوق العام و عن قدرة الناس على التمييز بين الجيد و الردئ، ثم عن ذوقك الخاص و قدرتك على التمييز.
كنا قديماً نحتفظ بقصصنا و حكايانا و مشاعرنا حتى”لنحكيها” لصديق أو مجموعة من الأصدقاء و لم نكن نبحث عن الإعجاب و الثناء، كانت الحكايا تبحث عن سكن في العيون المحببة و لا شئ أخر، اختفت العيون المحببة و أصبحت آلاف من العيون الإفتراضية التي لا نعرف عن أصحابها شيئاً.
و القصص المحكية أصبحت مكتوبة، و الكتابة بحاجة لغة و كلمات، و من خلال رؤيتنا لكلماتنا مكتوبة أدركنا جمال اللغة، و عشنا رحلة النزوح من مستمعين و متكلمين إلى قرّاء و كُتّاب، أصبح الجميع يكتب، و أصبحنا نقرأ كل شئ، و أصبح الشاعر مهدد بآلاف القرّاء و هكذا..
لكن من هؤلاء القرّاء..؟؟
هل هم نفس القارئ الذي يذهب إلى المكتبة لشراء كتاب..؟؟
هؤلاء متصفحون و ليسوا قرّاءً، و السئ أنّ الكثير من القرّاء تركوا هذه الصفة و انضموا إلى المتصفحين.
فمن يجلس لقراءة كتاب أو رواية أو قصيدة سيختلف استقباله و متعته عمّن يتصفح عابراً لامبالياً و من دون تركيز على الفيس بوك .
هؤلاء المتصفحون أفسدوا كثيراً من الأدباء و من مشاريع الأدباء، و قتلهم الإعجاب الأجوف قبل أن يولدوا، و أستطيع القول إنهم أفسدوا الذوق العام.
فمعظمهم لا يعي ما يقرأ، و لم يقرأ قبل الفيس بوك، هذه حقيقة ملموسة.
لكنهم جميعاً يوزعون” اللايك” و يرتفع سهم القطعة الأدبية أو المقالة حسب التسعيرة أسفلها.
هذا التواصل المباشر جداً خلط الحابل بالنابل، و أصبح الشاعر و قصيدة جزءاً لا يتجزأ، و الباحث و مقالته أيضاً، و أصبح نقد النص يعني نقداً لصاحبه و تشهيراً به لأنه يكون على العلن و على الصفحة الشخصية لصاحب النص، لذلك انتقل الإنتقاد إلى ما وراء الكواليس و حتى هذا بات غير محتمل، لا يسمح إلا بالإعجاب.
تضخمت الأنا لدى الجميع و أصبحت قاعدة الإنطلاق لكل حرف يُكتب أو لكل تحليل و مقاربة للأحداث، لم يخل الأمر من المحسوبيات و الرشاوي و مبدأ القرض و السداد.
كل شئ قابل للتشيئ حتى حزننا و كلمات رثائنا، و ما نكتبه تعبيراً عن ضياعنا و خيبتنا الشخصية.
لم تعد تعني الكلمات الكثير إذا لم يُعرف قائلها، و صورة الشاعرة أصبحت مقطعاً من القصيدة بل المقطع الأكثر إعجاباً، و حلّق البعض كثيراً حتى صنّف نفسه بالمفكر و بالكاتب علماً أن صفحات هؤلاء تصرخ بأنهم لا يعرفون المعنى لهذه الصفات، و تسلح البعض باللغة المنمقة و بالغموض و بالتصاوير البلهاء.
إمتنع البعض عن رمي نصه في هذا السوق و إحتفظ به للقرّاء متنازلاً عن المكافأة المباشر.
و سَكِر البعض من القيمة الإفتراضية التي حصل عليها عبر جمهور متصفحيه و أصبح بلا شكل و بلا لون و بلا ملامح و بلا موقف.
أخذنا الظنّ بأن الكلمات المكتوبة لا تنقل ما وراءها و أن الأقنعة اللغوية تحمي هشاشتنا و ما نخاف البوح به، و أن الغموض يستر ضحالتنا.
في حمى السباق أضاع الكثير موهبته و أصبح مجتراً لكلماته، و توقفت ملكة الإبداع عن الإنتاج بسبب الوصول الباكر للشهرة أو الحصول على الإعجاب المفرط.
امتهن البعض السرقة و سرى الرعب من النقد لدى الجميع حتى غاب النقد هناك على الفيس بوك.
لقد أغرَقَنا الفيس بوك في سخافات الأخرين عندما كنا نبحث عن جمالهم، و طَمس ما نحاول إظهاره و أظهر ما حاولنا طمسه، أصبح الفيس بوك مسرحاً للراقصين الذين يحاولون قتل بعضهم، و انتقل الجمهور للمسرح ،و أخذ الجميع يمارس نوعاً من الجيدو الأخلاقي لسحق الأخرين و إثبات أننا أكثر أخلاقية و أجدر بالإعجاب.