أحمد أبازيد
الاختلاف ما بين الثورة السورية و غيرها من الثورات , لا يظهر في شكل نظام الحكم الذي تقوم عليه , أو بمستوى العنف الذي جوبهت به , بقدر ما يبدو في شكل الثورة نفسه و طبيعة المجتمع الذي حملها .
لم تكن الثورة احتجاجات مدنيّة أنيقةً ضدّ الحكومة تحاول أن تجمع حولها الناس , ولا كان يمكن لأيّ احتجاج مدني أن يقوم بثورة , لأنّ هذا الشكل من الاحتجاج يقوم ضدّ دولة أخرى و واقع سياسيّ مغاير و منفصل لا عن الدولة و حسب و إنّما عن طبيعة شعور الناس نفسه تجاه هذه السلطة , هذا بقدر ما تبقى هذه الاحتجاجات المدنيّة محصورة في نخبة تقدّم خطاب نخبة ضدّ نخبة أخرى , و بقدر ما تقوم هذه الاحتجاجات على أفراد متذرّرين منفكّين عن انتماءٍ غير الانتماءات التي تستخدمها السلطة نفسها كأداة لحكمهم , باعتبارهم مجرّد مواطنين أفراد .
كان شكل الثورة منذ اشتعالها في درعا يظهر قيام مجتمع ضدّ السلطة , لم يكن هناك متظاهرون ضدّ النظام في درعا , كانت هناك “درعا” ضدّ النظام , هكذا بكلّ بساطة هذه الثنائيّة و وضوحها و حدّيّتها المطلقة , كان يمكن لأفراد أن يواجهوا السلطة لتحسّن بعض شروطها و لتردّ عليهم بالقمع المدنيّ المصنّف ضمن العنف الطبيعي للدولة , قمع الضرب و الاعتقال و التعذيب في السجون , ولكن لم يكن لهم أن يشكّلوا لدى السلطة غير طارئ عابر من أفراد يمكن أن يزعجها دون أن يهدّد وجودها , و لذلك لن تردّ عليهم تجاه من يهدّد وجودها بوسائل التدمير و العدم المطلق .
هذا ما يظهره طبيعة كلّ الأماكن التي احتضنت الثورة فيما بعد , ليس أوّلها ريف دمشق الذي ما زال يمثّل معركة النظام الكبرى و مرتكز الثورة الأهمّ , و ريف اللاذقية ( و إن كان الانتماء الذي يشكّل المجتمع هنا هو تغاير المذهب لا العشيرة ) , و حمص نفسها (حيث كانت الأحياء الفقيرة قادرة على تقديم مجتمع متراحم عدا عن التماسّ الطائفيّ ) التي تحوّلت إلى الجغرافيا الرمزيّة الأهمّ في الصراع , و ريف إدلب و ريف حلب , و دير الزور , إلى كلّ أماكن الثورة , و في دمشق المدينة نفسها لم يكن للثورة حاضن في غير الأحياء التي حافظت على نسيجها و اتساقها التراحمي و كان يمكن أن ترى فيها مجتمعاً …. لا مدينة (القابون , ركن الدين , الميدان … الخ ) , هذا التفريق حاضر لدى السلطة و يبدو واضحاً في تعاملها مع النشاطات المدنيّة و مستوى العنف الذي تواجهها به حتى اليوم , و كان يمكن للمدن أن تمارس الثورة كمدن بأكملها لا كأفراد فقط حين تنهك المجتمعاتُ المحليّة -بحاملها الريفيّ أساساً- قدرة السلطة على القمع , لم يكن تأخّر المدن للالتحاق بالثورة غريباً أو ملغزاً أو ذنباً لناشطي الثورة في هذه المدن , بل كان هو المحصّلة الضرورية لطبيعة هذه السلطة التي لا يمكن القيام عليها إلّا بهذه الثورة , ثورة المجتمعات المحليّة , بانتماءاتها الواضحة المتينة من عشائر و مجتمعات تراحمية أو مذهبيّة , ضدّ السلطة , بهذا الصدام العاري .
و رغم ما في الأمر من فجيعة و كارثيّة دامية , إلّا أنّ هذه المدن لم تكن قادرةً على الانعتاق عن تفكّك المدنيّة و التحوّل لمجتمع متماسك قادر على صياغة صراع كجسد ضدّ السلطة لو لم يتعرّض لاحتماليّة التدمير العامّة التي تمارسه السلطة عليه , هذه الاحتماليّة التي لم تصبح قائمةً في مدينة كحلب مثلاً إلّا بعد اقتحام الريف لها .
كان الحلف غير المعلن ما بين النظام و النخب العلمانية قائماً على هذه النقطة بالذات , مقتل النظام الذي تتوهّم المشاريع التحديثية أنّه مقتلها كذلك , إنّه التحالف على أنّ الريف الجاهل لا يمكنه أن يمارس الديمقراطية و لا الانعتاق من عصور الظلام , و كان تحقير هذا الريف جزءاً من سلوك النظام و إعلامه , حتى عبر التغنّي به (الفلّاحين و العمال و الجماهير ) الذي كان يرتكز على إظهاره بعيداً متمايزاً كأيّ إعلام عن المناطق الأثرية موجّه للسيّاح , و كان هذا الخطاب -خطاب تحقير غير المدني- مستخدماً بوضوح أوّل الثورة في الإعلام السوري جنباً إلى جنب مع تهمة كون مدن الثورة حدوديّة أو محسوبةً على الإخوان .
يمكن التفصيل –لولا أنّ المساحة هنا لا تحتمل- و القول إنّه أمكن فيما بعد لما هيّأته بنية الثورة و المجتمع الذي شكّلته أن يحتاج مع استمرار الوقت انتماءات عابرةً على انتماءاتها و أكثر جذريّة و أوسع جغرافيا و عدداً و أثقل بالرأسمال الرمزي , السلفية الجهادية مثلاً , ما يجعل الاختلاف الفكري ضمن هذا المجتمع فاعلاً حقّاً –بعد أن تشكّل كمجتمع فاعل في السياسة- بعد أن كان الاخلتاف الفكري مجرّد اختلاف ما بين نخب محدودة …. في المدن
و لا بدّ لتكتمل الصورة من التفصيل أيضاً –لولا أنّ هذا يحتاج بحثاً وحده- عن تطوّر الحراك الثوري المحلّي إل تشكيلات مسلّحة وُلدت من صلب هذه المجتمعات المحليّة , كتطوّر طبيعي للصراع , قبل أن تظهر أكثر –بشكل طبيعي- الكوامن العقائديّة الموجودة أصلاً في هذا الصراع , و تصبح التشكيلات المسلّحة العابرة للمجتمعات المحليّة عبر انتماءٍ أوسع ظاهرةً و فاعلةً بقوّة .
إنّ الإقرار بذلك و فهم طبيعة صراع الثورة ضدّ النظام , كمجتمع ضدّ سلطة , ليس للتاريخ وحده , رغم الأهمية الكبرى لذلك , و إنّما هو للمستقبل أكثر , عبر إعادة توزيع الأوزان التمثيليّة لتكون أقرب شبهاً لما شكّل الواقع أكثر , و عبر نزع الشرعيّة عن خطاب التجهيل للمجتمعات المحلية و البنى التراحميّة , وعن اعتبار النموذج “الديمقراطي الليبرالي” هو ذروة تقدّم المجتمعات بما يشترطه كديباجة من الانتماء للمدينة المذرّرة المفكّكة و الانعتاق عن بنى ما قبل الدولة (كما يسمّونها) و ما يرافقه من تصغير لها , و عبر السعي لبناء القادم أن يكون من نابعاً من قلب ما فكّك السابق , دون الاستيراد المكرّر للإشكاليّات الأكثر حداثةً لتكوين واقع مختلف , حتى لا تتكرّر حالة اغتراب السلطة و تشكّلها النخبوي ضدّ ما ليس نخبة …