كان من أهمّ ما ساهم فيه الشيخ البوطي في حياته هو تكريس سلطة المؤسسة الدينية , و تكريس مظهرها كمؤسّسة , و كان ذلك مكوّناً لا يمكن إلغاؤه لفهم خياراته و منهجه في حياته قبل فكره , إذ عادى لأجل ذلك الإسلاميّين باعتبارهم خارجين عن اجتهادات المؤسّسة التقليديّة و سلطتها , و التزم بالصداقة مع السلطة أيضاً باعتبار واجب حفظ الدين واجباً دائماً مقدّماً على سواه لا ينبغي التفريط به في أيّ وقت مهما كان جور الحكم ( و هذا كان تبرير الإمام الغزالي لشرعيّة الحكم الظالم باعتباره ضرورةً لإقامة الدين و شرائعه و إلا إن بقينا منتظرين حتى يقوم حكم تام العدل لنعترف بشرعيته فلن يقوم عمود الدين ) , و لكن الدين لدى البوطي كان متمثّلاً بالمؤسّسة و اتباعها بدايةّ , و لذلك اعتبر أنّ “اللامذهبيّة” هي أخطر بدعة تهدّد الأمّة , لأنّه لا يمكن فهم الأمّة بمنظوره إلّا كموضوع لسلطة المؤسّسة و ممارسة معرفتها , و رغم عدائه للسلفيّة بحكم انتمائه المذهبي إلّا أنّ مواقفه من المختلفين و المجدّدين لم تكن أكثر انفتاحاً بل ربما كانت أشدّ عليه , و كلامه عن جمال الدين الأفغاني و محمد عبده و علاقتهما بالماسونية و حتى اتهام عبده بعبادة الأفغاني يتجاوز النقاش في المنهج إلى رفضه المسبق لما يتضمّنه من عدم التزام بالمؤسّسة و خروج عنها , و كذلك كان له موقف مشابه ضدّ “الفقه الأوروبي” و ضدّ من يحاولون التجديد خارج إطار المؤسّسة (وليس بالضرورة خارج اجتهاداتها) , و كتابه “يغالطونك إذ يقولون” مثالٌ واضح على ذلك .و لا يقف البوطي بذلك متبعاً هواه الشخصيّ وحده منعزلاً عن إرث ضخم من تكريس المؤسسة و تقاليدها المحافظة و اللاثوريّة و المتصالحة مع السلطة , دون أن ننفي أنّ جزءاً من غلوائه في ذلك تبعٌ لاختبار شخصيّ لا فكريّ .
و كان ممّا قدّمته الثورة أن فكّكت سلطة هذه المؤسّسة منذ بدايتها , باعتبارها ثورة شباب منبتّ عن أيّ وصاية , و يطمح بالمستحيل الذي لا تستطيع أيّ مؤسّسة تقليديّة أن تتّبعه عليه (حتى مؤسّسات المعارضة) لا لقناعاتها بقدر ما هو لموسّسيّتها , و كان المشايخ الذين انحازوا إلى الثورة في بدايتها (مثلاً : الشيخ أحمد الصياصنة في درعا و الشيخ أنس عيروط في بانياس ) كانوا أبناء مجتمعاتهم التي حملت الثورة أكثر ممّا كانوا أبناء للمؤسّسة , أي أنّ انتماءهم إلى المجتمع و الذي ساهم أيضاً في تكوينهم الفكري هو الذي حكم خيارهم أكثر منه المؤسسة باعتبارهم لم يكونوا محسوبين عليها و مرتبطين بها كثيراً حتى قبل الثورة .
و باعتبار الثورة قدّمت نموذجاً للانتماء الديني الفاعل مختلف جذريّاً عن النموذج الذي كانت تقدّمه هذه المؤسّسة , تديّن الكرامة مقابل أخلاق السلامة التي كانت تربّى حماماتُ المسجد عليها , و باعتبارها زاحمت هذه المؤسّسة حتى على أساس شرعيّتها في المساجد , أي أنّها ظهرت في بدايتها كمنافس لكلّ القديم و المعتاد و من ضمنه عادات المؤسّسة الدينيّة التقليديّة الموروثة و خطابها , و لا زلت تسمع حتى الآن من المشايخ الذين لم يقولوا رأيهم في الثورة و لم يؤيّدوا النظام أنّ سبب حيادهم هو كونهم لم يُستشاروا .
عبر سيرورة الثورة , و تطوّرها و تضخّمها , حصل انقسام في هذه المؤسّسة نفسها مشابهاً لما حصل في المجتمع , و لكنّ هذه السلطة للمؤسّسة نفسها كانت قد تفكّكت تقريباً لتصبح فاعلةً لا ضمن سلطتها و لكن ضمن شرعيّة سلطة بديلة هي الثورة , ولكنّها كمؤسّسة و كمشايخ يكوّنونها (مشايخ انقسموا إلى خيارات مختلفة في المعركة ) كانت قد أصبحت في حكم الماضي الذي يُعاد تشكيله أو توزيعه من جديد , و كان اعتبار البوطي حالة شاذّة تتبع خياراً شخصيّاً و ذمّها و رفضها من قبل معظم المشايخ الذين انضمّوا إلى الثورة أحد وسائل الحفاظ على ما تبقّى من شرعيّة الخطاب القديم , و هذا ليس خطأ بل هو دلالةٌ ممتازة على الانقطاع عن التعصّب للمؤسّسة , و الانتماء القويّ للثورة و الخيار الأخلاقي و الديني الأوضح بما يتضمّنه من التحوّل و القدرة على التجديد و تغيير الخطاب .
لدى وفاة البوطي ( أو مقتله ) , و قيام معظم المشايخ الذين انضمّوا للثورة و أصبحوا متحدّثين باسمها بالتحدّث عنه كشهيد و الدفاع عنه , و حتى تصويره و كأنّه كان سينقلب على النظام الذي أدخل كلّ موتاه الجنّة منذ ثلاثين عاماً لا منذ عامين , أظهر المشايخ –بذلك- تراجعاً عمّا اظهروه من قبل من انفكاك عن التعصّب لهذه المؤسّسة و الانتماء إلى سلطة أعمّ في عصر يتحتّم فيه التجديد , ليبدو و كأنّ هذه المؤسّسة ما زالت تريد تاكيد نفسها كانتماء أوّل لا يجب أن تُلغى مكتسباته و لا سلطته الشرعيّة , و هذا على عكس المأمول منه , و تكراراً لما فعله البوطي من قبل, سيضرّ هذه المؤسّسة و يساهم في تفكيكها أكثر , ربما يكون ذلك لصالح تيّارات إسلاميّة أكثر تحرّراً من القيود , تتشكّل الآن كثيراً بين النشطاء و قليلاً بين الكتب …. و هذه مشكلتها.
fb.me\abazed89