عهد زرزور
———————
هي تلك المسافة تماماً التي تفصل بين امتداد الجسد المرميّ فوق الدماء تحت الدماء ، وبين الجسد المرميّ هناك ولكن .. تحت الركام .. فوق الركام بين الركام…
مسافة تفصل شجرة الزيتون عن شجرة الليمون…
مسافةٌ تفصل بين المنزل الذي سقط على رأس من بناه و الرصاصة التي اخترقت رأس من تبنّى مقاومتها يوماً…
لم يعد هناك متسعٌ من الصراخ .. أصبح الوطن يبكي تحت التراب
ليس للصوت معنى لأن الوطن أصبح تحت التراب ، وما الوطن دونهم؟ من كانو يمشون معنا!!
هنا غرس شجره وهنا يغرس ابنه، وهنا ينزح من بلده قبل أن ينزح الوطن منه شيئاً فشيئاً،
تتشابه الأشكال هناك تحت التراب جداً.. ويخلق من الشهيد أربعين .. بل أربعمئة بل أربعة آلاف بل أربعون ألفاً..
الشهيد ذاته .. ملامحهم تارة تذوب بالأرض فتكسوها صبغةٌ خصبة وتارة تذوب في السماء فتعلوها هالة بيضاء بلون قلب طفلٍ ذُبح وهو يهمس برجفة تسري في الوطن “عمو لا تقتلني”……
أرواح الأحياء تنتظر دورها في صفٍ طويل ويحملون أرقاماً لا يحسنون عدّها، ولا يجيدون الوقوف ! يتزاحمون حتى على الموت ! وينهالون على الرصاص…
دعوا الرصاص لا يمر بكم.. دعوه يقنص الهواء فقط ويخترق كل ما هو حولكم ولكن ليس بكم.. وافسحوا الطريق بينكم وبين الأرواحْ التي صعدت لتوها..
ازدحام أرواحْ .. ولا مجال بين المسافات … لا مسافات..
لم أقابل شهيداً في حياتي إلا وكانت تفصلنا مسافة صمتٍ صغيرة، هو: يحدثني بصمت وأنا: أجيب بصمت
هذه بالتحديد هي المسافة التي تربطني بين كل الشهداء.. تحت الأرض صمت، وفي السماء صمت حتى هذه اللحظة يفصلنا الصمت القريب جداً البعيد لغةً …
ومن لم ينم في منزله بالأمس، لم ينجبه الموت، بل خطفه ظلٌ عابر، من لم يُزّف إلى أهله مكللاً بدم شهيد.. من لم يتناول العشاء الأخير قرب سجادة الصلاة الأخيرة..
هو الآن لم يعبر السماء ولم يعبر الثرى..
لم يعبر سوى مسافة صغيرة… مسافة ما بين غصة حلق أب وعصة قلب أم … مسافة الأين؟ من المتى؟
هناك في الغرفة المظلمة أيضاً، رطوبةٌ أكلت جزءً من الضوء الخافت…
أربعة جدران تفصلها مسافة عدة أجسادٍ مكوّمة، لا تفعل شيئاً سوى أنها ترسم التاريخ في هذه اللحظة..
أما الذين في الغرفة المجاورة بين العصيّ والقبعات النتنة فيهدمون أيديهم وأرجلهم حجراً حجرا…
نعود إلى الوطن الممتلئ بالأوطان الصغيرة الواسعة.. ذلك الوطن الذي أصبح تحت الوطن..
لا يزال سكانه يحلمون.. هم، لم ينهوا دورهم بعد..
إنها فترة موت وستنتهي قريباً.. على بعد مسافة واحدة .. مسافة بطول حياتنا نحن ..
وسيمسي الوطن وطناً واحداً فقط ..تحت ما كان يسمى وطنْ …فقط تحت ما كان يسمى وطنْ …