يوسف أبو خضور
لا أعرف من أين خرجت و كيف وصلت إلى شارع شبيه بشوارع دمشق. أحد أصدقائي القدامى قادم باتجاهي. أردت أن أساله متى خرج من سوريا؟ و كيف وصل إلى هنا؟ لكن حلقي جف كخشبة عندما باغتني هو بالسؤال : متى رجعت..؟!
نظرت حولي و أحشائي تتقطع، وجدت نفسي و إياه أمام مدرستنا القديمة و الطلاب يخرجون من المدرسة و يهتفون بلغة لم أفهمها..كأنهم فرقة عسكرية.
قال صديقي: هناك شبيحة..تصرف بعفوية.. لا تهتم.. تعال….
مررنا أمام الشبيحة الذين كانوا يملؤون المكان و ركبتيّ تقصف خوفاً، و خُيّل إليّ أن أحدهم سمع صوت خوفي، نظر إليّ نظرة توحي بأنه كشفني…
أدرك صديقي ذلك و صاح: أركض….
ركضت ،و كان صديقي يركض معي،و يسألني أسئلة عادية من قبيل : ماذا تعمل.. هل تزوجت..؟!
قلت له و أنفاسي تتقطع: أين نذهب..؟؟
قال ببرود دون أن يلهث حتى: هنالك “عرس” قريب لأحد الأصدقاء، لنذهب إليه …
وصلنا أحد البيوت، ظننت أني أعرفها، أختبأنا داخل سوره،و كنت أرى عيون الشبيحة فقط ،عيون تسبح في الهواء و تبحث عني . كان الخوف يأكل قلبي، خوفٌ لاعهد لي به..
باغتني رجل عجوز يحمل شمعة: أنت الميكانيكي..؟ و تابع قبل أن أجيبه: السيارة في تلك الزاوية إذهب لإصلاحها.
عندما خرجت من أسفل السيارة وجدت فوقي مجموعة من الشبيحة من الجنسين، معظمهم من الفنانين و المثقفين الذين علقت صورهم بذاكرتي..سقطت في هوة مظلمة، شعرت بأن عقلي إبتلعني..
بدأ العرس، و وجدت نفسي بجانب صديقي العريس. همست له بأن المكان ملئ بالشبيحة، لكنه ربت على فخذي ضاحكاً :لا تقلق.. معك سلاح..؟
تذكرت أن معي مسدساً كنت قد اشتريته لإبني، مسدس لعبة…
قلت: نعم ،لكن ليس معي طلقات. لم يسمعني، كنت احاول التنفس و لا أستطيع .. انها لحظات رعب لا توصف..
أشارالعريس بيديه بلا مبالاة لأحد الشباب الذين يحملون ” المايك” ،و كلما أشار له كان الشاب يقول:العريس سيدمر الرئيس…
و كنت أقول في نفسي : هذا لا يحدث إنه حلم..أنا لست هنا..هذا حلم و سَيمّر..أنا بعيد عن سوريا أصلاً و لا أشترك مع هؤلاء بمصيرهم، تخليت عن المصير المشترك منذ زمن بعيد.
كنت خائفاً و نادماً، لا أرى إلا عيوناً بأحجام و ألوان مختلفة تحاصرني.
بدأ إطلاق النار و كان العريس البادئ ،بعد أن صرخ بدرامية واضحة: النسوان لجوا.. لا تخافوا عدونا تافه و سخيف..
أما أنا فكنت أزحف على التراب، و العيون تراقبني باستهزاء….
صرخت بلاصوت : أين قاعة المؤتمرالتي كنت فيها؟!!.أردت أن أتأكد أنني لست في سوريا..
كنت نادماً على كل كلمة كتبتها أو قلتها، و كانت عيون الشبيحة تسمع ما أقول، و تقترب مني حتى ابتلعتي..
وجدت نفسي فجأة أبكي بلا صوت في شارع يشبه شوارع المالكي في دمشق. كان صوت العريس ما زال يتردد في رأسي :لا تقلق عدونا تافه، عدونا تافه
كنت وحيداً هناك أحاول العثور على طريقة للإستيقاظ، عندما مرت سيارة تشبه السيارات المتجولة .كانت تبيع السلاح، أشكال مختلفة من الذخيرة و البنادق، يصيح عليها السائق برتابة مملة..
أطلت سيدة بنصف جسمها من احدى النوافذ، نظرت إليّ فوراً و استنجدت: وقفو الله يرضى عليك وقفو….اشرتُ له دون أن أعيّ شيئاً فتوقف، نظرت بتمعن لوجه السيدة الذي يشبه أحد وجوه المعارضة النسائية..
أرسلتْ السيدة طفلها إلى السيارة، رأيتها تشير للبائع بيديها و بأصابعها، حمل الولد الكثير من الأسلحة بفرح و عاد لأمه.تابع البائع ندائه و قاد سيارته بسرعة هائلة باتجاهي..إبتلعني عقلي مرة أخرى..
الأن أنا في ممر مشفىً ميداني و معي طبيب عرفته قديماً، يبكي بهلع و كنت أبكي معه، و مجموعة من الشباب ينادون بأسمائنا، صوت أمي في رأسي يقول لي :لماذا أنت خائف؟! صرخ الطبيب في وجهي: لماذا أحضرتني هنا؟ كنت أقنعه بأنه مجرد حلم من أحلامي. قال: أهذا هو “البزنس” الذي وعدتني به؟..
تباطأ كل شئ فجأة حتى أصبح كعرض فلم بطئ، كل شئ يتحرك بتثاقل و يراوح مكانه، و يكرر نفس العمل، كل الأصوات أصبحت مضحكة حتى صوت الطلقات التي تصيب الحائط الحجري الآسود خلفنا. شعرت بحكة في قدميّ،و بصعوبة إستطعت النظر إليهما لأجد كلبين ينهشان اللحم عن ربلتي ساقيّ بسرعة و بنهم شديد، كانت قدماي من العظم الملطخ بالدماء فقط…
غبت من جديد
وجدت نفسي أمام باب بيتي القديم أبحث عن المفتاح ،لكن يدي علقت في جيبي ،وكنت أشعر بأصابعي تحترق، و شئ ما يسحب يدي عميقاً. كانت الأبواب تتزايد أمامي و كلها أبواب أعرفها، أبواب بيوت سكنتها مرة.صوت الطلقات يملأ المكان و وقع أقدام على السلم، عرفت أنهم رجال الأمن جاؤوا لإعتقالي، مع اقتراب صوت خطواتهم و يقيني بأني واقع حتماً في قبضتهم ،دارت الدنيا و دار رأسي خوفاً، و فتحت عيني بقوة..
استيقظت هلعاً و بحلق جاف كصحراء..
يوم جديد و نوع جديد من الخوف لتجريبه، نحن نجرب أنواعاً من الخوف لا عهد للبشر بها، الخوف كلب مسعور يحمله السوريون في حقائبهم آينما ذهبوا، يتربع وسط منازلهم..
صباح ذلك اليوم في فندق المؤتمر ،و عند الإفطار كنت أحدث الأصدقاء عن حلمي بالذهاب لسوريا لمشاركة الشباب نضالهم على الأرض، لولا كثرة المشاغل.
أقسم أنني كنت مقتنعاً جداً بكلامي..!!