تقرير – رنا شام
لم تصحو بعد مدينة داريا من هول الفاجعة التي أنزلتها بها قوات الأسد، مازال الذهول يلف المدينة، ومازال الأهالي يبحثون عن جسامين أحبابهم المفقودة، فالمدينة لم تنهي مراسيم التشييع بعد.
ليس من العبث اختارت قوات الأسد توجيه واحدة من أقسى الضربات لمدينة داريا، فالمدينة معروفة بقوة نشاطها الثوري، ومن المعروف أيضاً عن المدينة كونها من المدن التي حسمت خياراتها مبكراً حيال ثورة الشعب السوري، وانخرطت في نضاله منذ الأيام الأولى؛ عوقبت داريا كحال باقي المدن السورية الثائرة، وكان العقاب يشير إلى حقد دفين تختزنه قوات الأسد ضد المدنيين من أفراد الشعب السوري. حيث كان يكفي أن يعثر رجال الأمن على جملة مكتوبة بخط عبثي على ورقة مهملة تقول فيها صاحبتها عبارات مناهضة لحكم الأسد حتى يقوم الأمن باعتقالها هي وزوجها وأفراد من عائلتها.
تروي لنا والدة سامية المرأة التي اعتقلت على يد قوات الأمن، قصة تغييب ابنتها عنها وعن أطفالها لتقول اقتحموا بيت ابنتي وقاموا بتفتيشه ليعثروا على دفتر مذكرات ابنتي وليقرأوا فيه عبارة (اليوم هو العيد ولكنه ليس كباقي الاعياد التي مضت أتمنى أن يأتي العيد القادم ونحتفل بسقوط النظام) فعندما سألها الضابط لمن هذا الدفتر، أجابته إنه لي، خوفا على زوجها، مما قد يصيبه إن اعتقدوا أنها مدونته، لربما سامية تخيلت لبرهة أنها تدفع الشر عن زوجها وأنها قد تنجو لأنها امرأة وأم، إلا أن كل هذا لم ينفعها، فلا فرق عندهم بين امرأة ورجل ولا بين عجوز وطفل فكلهم سواء في الموت والاعتقال في سوريا الاسد.
عشرات القصص والتفاصيل يرويها من خبر المجزرة وكتب له النجاة، والجميع يتفق على أن الحقد الذي كان سائداً بين أوساط قوات الأسد شيئاً غريباً لم يخبروه قبلاً. حدث القتل بطريقة ممنهجة، وتم تقصد أن يحدث التعذيب والاعدامات على مرأى من الأهالي، وكانت الرسالة واضحة: إرهاب السكان وكسر إرادة الثوار وتحطيم صمودهم.
يقول يمان وهو واحداً ممن نجوا بأعجوبة من الموت: لقد سقطت على الأرض، ووجهي امتلأ بالدماء التي تطايرت من رؤوس عائلتي، جرحي كان طفيفا، وسقطت جثث أخرى فوقي. عندما اقتحموا منزلنا وأنزلونا الى الشارع أمرونا بخلع ثيابنا لتصبح صدورنا عارية, كان هناك أكثر من أربعين رجلا معنا أعرفهم كلهم ومعظمهم أقاربي وأصدقائي ومعهم أخوتي وأبي والكثير من أفراد عائلتي، لم تقف ألسنتهم لحظة عن شتمنا وبأقذع العبارات أمام أمهاتنا وأخواتنا، ثم قاموا بضربنا بالعصي وقطع من الحديد على ظهرنا وهم يهينونا بكل الكلمات، كنت قريبا من الضابط الذي جاءه أمر على اللاسلكي يقول (إني لا أسمع صوت أطلاق الرصاص) فاقتادونا الى قبو قريب و بدأوا بدفعنا لنتدحرج فوق بعضنا على الدرج وبعدها أداروا وجوهنا الى الحائط وعندما نزلنا الي القبو قال أحدهم انظروا الي و سألنا أين الارهابيون فأجابهم رجل بالخمسين من العمر نحن لسنا إرهابيين فأطلق الضابط الرصاص على قدميه ومن ثم الى رأسه قتله بدم بارد والتفت بسلاحه الينا واحدا تلو الاخر ولم اعد أسمع الا صوت الرصاص يخترق أجسادنا ويعلو فوق صوت سكرات الموت يهدأ هنا برهة لأسمع صوت أخي بجانبي يئن من إصابته وصوته كشخير النائم الصوت الذي لن انساه ما حييت. وهنا أصبحوا يقتلون الناس على درج القبو ويلقون بهم للأسفل لقد قتلونا كالنعاج بل كان عليهم أسهل من ذلك.
اليوم تقف المدينة مترنحة، تسعى إلى تضميد جراح من الصعب أن تندمل، والأهم من ذلك تسعى إلى معاودة تنظيم صفوفها والانطلاق من جديد في ركب الثورة، فعندما صدحت حناجر ثوارها “الموت ولا المذلة” كانوا يعنون ذلك فعلاً، فالمدينة التي استيقظت على أجراس الحرية لن تنيمها أصوات المدافع والطائرات. هي حياة واحدة اختارها الجميع.. حياة الكرامة.