– حاضر سيدي… سنقوم بالمهمة ..
يغلق سماعة الهاتف ويلتفت إلى رفاقه المجتمعين حول طاولة مهترئة سئمت من تلقي صفعات أوراق اللعب من أيديهم، وزاد قرفها كؤوس (المتة) التي التصقت على سطحها… يقول لهم:
– مهمة جديدة! حضّروا أنفسكم وسننطلق خلال دقائق.
قالها بصوته الذي لم يعد يعرفه حقاً بسبب التعب، بينما تلقتها وجوههم البائسة والمتعبة، وكيف لا يتعبون وقد كانت الساعات الست التي يحصلون فيها على الراحة يومياً غير كافية لتغسل تعب ساعات الخدمة عن أجسادهم وتفكيرهم، حيث يقضون باقي ساعات اليوم في الشوارع على أمل القضاء على حالة وصفها قائدهم منذ ثلاثة أشهر بأنها سحابة صيف عابرة، وستمر مرور الكرام!! مرت الأيام والأسابيع وبقيت تلك السحابة في مكانها، لا بل ازداد سوادها، وأثبتت أنها عاصفة استوائية لن تمر وتنتهي إلا قبل أن تقتلع معها الكثير. أما هو فقد ظهر عليه تعب وارهاق استثنائيين، وأصبح شكل وجهه ولون عينيه يوحي بأنه سيسقط ميتاً بين لحظة وأخرى!
قال له أحدهم:
– يا أبا سومر… يبدو عليك التعب والمرض، ابق أنت هنا وخذ قسطاً من الراحة وسنعمل على تغطية غيابك…
رد عليه:
– لا لا بأس… سأكمل المهمة وبعدها سأحاول النوم وأخذ قسطاً من الراحة.
كان يعرف في قرارة نفسه بأن محاولات النوم تلك لم يعد لها أي معنى أو جدوى، فقد هجره النوم منذ أيام أو حتى أسبوع، وأصبح يقضي ساعات راحته الست تلك يصارع أفكاره. بينما يقضي باقي يومه في الشوارع والساحات في مواجهة المتظاهرين.
لقموا أسلحتهم وهمّوا بالخروج من المبنى، ركبوا السيارة وانطلقوا إلى المكان الذي أعطي لهم، ولدى وصولهم توقفت السيارة وترجلوا منها، وكان في المكان قوات من الجيش، مرّوا بينهم بينما كانوا يتبادلون التحية، كان هو يتأمل تلك القوات التي كان يغلب عليها شباب في مقتبل العمر، يبدون كأطفال مدججين بعتاد حربي كامل وتخط وجوههم السمراء شوارب غير مكتملة. كانوا حماة الديار الذين زج بهم قائدهم في معركة مع أهل الديار!!!
كانت تلوح في آخر الشارع حشود الجماهير الغاضبة والهائجة، كانت هتافاتها وكلماتها تهز الأرض وتبعث في نفس من يسمعها نوع من الرهبة أو حتى الخوف مما هو قادم، سواء أكان بين تلك الجموع أو في الطرف الأخر من الشارع.
سأله رفاقه: أنبدأ…؟؟
تمضي لحظات دون أن يجيب على سؤالهم ذاك وهو يحدق بالحشود.. بينما انتظر رفاقه أوامره وهم غير مستغربين كثيراً من تأخره بالرد فقد لاحظوا غرابة تصرفاته في الآونة الأخيرة فقد كان واضحاً عليه شرود ذهنه وتشتته. عزوا ذلك لخوفه وقلقه على عائلته وأولاده كما هي حال كل متزوج ملتحق بالخدمة في هذه الأيام.
بادر أحدهم بتلقيم بندقيته الآلية وفتح النار مباشرة باتجاه المتظاهرين..!! وتبعه البقية بعد أن تمركزوا خلف ما يحميهم في المكان من سيارات أو جدران أو حتى حاويات للقمامة، بينما بقي هو واقفاً بشكل شبه مكشوف يحمل بندقيته ويرتدي بزة الحماية على صدره ولا يحرك ساكناً. اشتد اطلاق النار وكان المتظاهرون يحاولون إسعاف من سقط منهم وحماية أنفسهم من وابل الرصاص، بينما استمر رفاقه بتشجيع بعضهم وعد الضحايا كما تعودوا أن يفعلوا، حيث أن هذه المهمات كانت أكثر متعة بالنسبة لهم من الجلوس في المكتب ومطاردة الذباب. كان أي خبير عسكري مهما صغر شانه ليصفها بالمعركة غير المتكافئة على الإطلاق والمحسومة مسبقاً لصالح رجال الأمن والجيش ومن يتبعهم، إلا أن صمود المتظاهرين وعدم تراجعهم كان يحمل معنى أخر للبطولة والنصر وتحقيق المكاسب على حساب الطرف الأخر.
في هذه الأثناء مشى هو باتجاه مدخل أحد المباني وألقى بجسده المتعب على الدرج وأسند نفسه على الحائط ووضع بندقيته بقربه، كانت الأفكار تتصارع في رأسه كما هو حال الصراع في الخارج، كان يفكر ويتذكر كيف كانت حصيلته في اليوم الأول ثلاث ضحايا وفي أخر أسبوعه الأول أتم خمس عشرة ضحية، وها هو بعد ثلاثة أشهر وقد أصبح الرقم خمسون يلاحقه كالشبح، ولا تفارقه حقيقة كون خمسٍ منهم من النساء وسبعٌ من الأطفال والمراهقين، كان يتذكر تلك اللحظة، في بعض المهام، التي كان يرى فيها عين الضحية في منظار قناصته فيضغط على الزناد ويصرخ عالياً بالرقم لرفاقه … ليزداد ذلك الرقم المشؤوم.
كانت أكثر اللحظات ملاحقةً له في الفترة الماضية هي تلك اللحظة التي أسقط فيها فتاة في العشرينيات من عمرها، كانت تقف في مظاهرة لطلاب الجامعة، تبتسم وتهتف مع رفاقها: حرية حرية… عندما استقرت رصاصته في رقبتها وسقطت تنازع بين أيدي أًصادقائها حتى فارقت الحياة. لا يذكر أبداً أنه صرخ بعددها، ولكن كل ما يذكره هو أنه توقف عن العد بعد تلك الفتاة. لقد كانت تذكره بابنته الكبرى التي في نفس سنها، اسمها عروبة، كانت نتاج علاقة حب رائعة جمعت بينه وبين زوجته التي تنحدر من طائفة اخرى، وقد فعل المستحيل ليجبر أهله وأهلها على إتمام ذلك الزواج، كانا في حينها أسعد زوجين في هذا الوطن، كان شاباً فخوراً يعشق الوطن ويعمل كرجل أمن يقدم عمره في خدمة الوطن وقائده، يهتف يومياً بأنه سيفديه بالروح والدم، يربي ابنته عروبة وأخاها سومر على حب الوطن وقائده، ولكنه لم يكن يتوقع أن يأتي يوم تصبح فيه يداه ملطخةً بدماء شعب هذا الوطن، ممن خرجوا طلباً للحرية. لم يكن يتوقع أن يأتي اليوم الذي يقتل فيه أصدقاء ابنته من بناة المستقبل، فقط لأنهم أحبوا الوطن كما أحبه هو.. وكما أحبه أولاده.
كانت الأفكار تلك تزداد في رأسه عندما دخل أحد رفاقه باحثاً عنه وقال له لاهثاً من شدة التعب:
– أبا سومر…. يبدو عليك التعب الشديد… خيراً فعلت ببقائك هنا.. بعض الجنود الخونة من الجيش تركوا مواقعهم وحاولوا الانضمام للمتظاهرين… لكننا قتلنا معظمهم وسنجهز على الباقي… استرح وسنأخذك للعيادة الطبية فور عودتنا إلى الفرع.
ظل هو صامتاً بينما خرج رفيقه مسرعاً بعد أن شرب جرعةً من الماء من عبوة كانت في جعبته….
كان هو مغيباً تماماً … تعصف به أفكاره … كان يحاور نفسه:
أي عار جلبت لنفسي ولأولادي؟؟! أي عار سيعيش فيه ابني وابنتي؟!! وأنا والدهم قد أصحبت قاتل الثوار.. قاتل الشعب الذي خرج ليطلب الحرية، لقد أصبحت قاتلاً لشعبي… ومن أجل ماذا؟!! من أجل طاعتي العمياء لمن أصبح عدو الشعب… يا ويلتاه، أي روح ملعونة وشريرة أصبحت أملك ؟!! أم أنني لا أملكها حتى، فقد سلمتها للشيطان لحظة أطلقت أول رصاصة اخترقت قلب إنسان بريء. أهذا ما كنت أتمنى أن أكون؟؟ تطوعت لخدمة الوطن كرجل أمن لكي أقدم لوطني وشعبه الأمان.. ولكي أساهم في بناء دولةٍ يفخر بها جميع أبناء شعبنا الغالي… وتوالت الأيام وتراكمت معها الإخفاقات والتنازلات .. وهأنذا أصبحت جزءاً من نظام دمّر الوطن وأرهق شعبه.. من رجل أمن يمثل القانون تحولت لعضو في عصابة تغتصب الوطن…. أي عار جلبت لنفسي ولعائلتي.. أي عار ؟؟!!!.
بدأ بالبكاء وكأنه طفل صغير لا يملك من أمره شيئاً ليمنع دموعه. وبينما هو في تلك الحالة سمع وقع خطوات تنزل الدرج على عجل من خلفه، انتفض والتفت بسرعة وسحب مسدسه من جعبته ووجهه باتجاه ذلك الغريب الذي تبين أنه فتاة جمدت في مكانها خوفاً، جمد هو أيضاً دون أن يفعل شيئاً بينما بقي مسدسه موجه إلى ذلك الجسد النحيل المرتجف حزناً، ووجها الباكي، مرت لحظات كان كل منهما يحاول كبت دموعه، ثم سألها:
– من أنت؟؟ ماذا تريدين؟؟
أجابته:
– قتلوا أخي….
خرجت تلك الكلمات من فمها بصعوبة بينما كانت ترمي بجسدها على الدرج باكية.. تنظر اليه وتتابع قائلة:
– اقتلني فلم يعد يهمني.. اقتلني أيها الجبان الحقير… أعطني شرفاً لن تحصل عليه ما حييت… أيها القاتل المجرم…
كان يحدق بها دون أن يرد بأي كلمة… كان يقف حائراً بين صعوبة ما كان يفكر به وشدة المفاجأة التي أحدثتها تلك الفتاة… تمالكت الفتاة نفسها ومسحت دموعها، وفي غمرة ثورتها تلك وقفت من جديد والتقطت فوهة مسدسه يديها ووضعتها على صدرها.. وقالت:
– ازرع سمّك هنا… ودع الوطن يعيش…
مرت لحظات وهو جامد في مكانه لا يحرك ساكناً بينما تحدق هي به بتحدٍ لم يره من قبل إلا في عيني ابنته عروبة، كانت لها نفس تلك النظرة عندما كانا يختلفان في الرأي وتصر هي على رأيها، كان حينها يبتسم لها ويضمها معجباً بثقتها وقوتها، أما هنا فالوضع مختلف، فلديه أوامر واضحة بأن يضع هذه الفتاة على قائمة أعداءه وأن يسلبها حياتها برصاصة غدر تسجل ضد مجهول في سجلات النظام.. وكأنّ قتلها سيحرر الوطن وسينقذه من هلوسات قائده عن المؤامرة الكبرى.
كان يتمنى لو يستطيع أن يضمها في تلك اللحظة، لأنه رأى فيها ابنته عروبة التي يحبها، رأى فيها حبه للوطن، رأى فيها مستقبلاً مشرقاً لوطنٍ طال فيه ليل الظلم والديكتاتورية تحت مبررات واهية كالممانعة والصمود والتصدي… وغيرها من تلك الكلمات التي حرصوا على تفريغها من مضمونها وأصحبت مجرد شعارات تستخدم كحجة مزيفة لاغتصاب الوطن والمواطنين. ولكن ما نفع ذلك الأن فهو وهي على طرفي النقيض.
قال لها في لحظة اختفت دموعه تماماً وبدت على وجهه نظرة تصميم تحمل في مضمونها رجولة كانت قد اختفت منذ زمن:
– أنت بعمر عروبة… بنفس جمالها… ابنتي عروبة التي أحبها (ينزل مسدسه ويعيده إلى جعبته بينما بدت هي متعجبة من كلامه) أنت وابنتي بناة المستقبل… اسمي حيدرة ميشيل محمد وينادونني (أبو سومر)، ضابط أمن، أرجوك جدي ابنتي وأخبريها بأنه عليها أن لا تخجل مما سأفعل اليوم وإنما مما فعلت سابقاً، أخبريها بأنني سأفعل ذلك لأجلها.. ولأجل سومر ولأجل كل مواطن في هذا الوطن…
التقط بندقيته وخرج مسرعاً من المبنى، بينما أسرعت هي للخروج من صدمتها وذهولها لسماع كلامه وتبعته دون أن تعرف سبب ذلك وعندما وصلت للخارج شاهدت ما روّعها، شاهدت ما لم تكن أبداً لتتوقعه قبل خمس دقائق عندما رأت أخاها يسقط مضرجاً بدمائه، شاهدت رجل الأمن ذاك وقد خرج وفتح نيران بندقيته على رفاق دوريته بينما كان يصرخ:
– سأخلصكم من عاركم.. سأنهي بؤسي وبؤسكم اليوم…
تابع اطلاق النار وسقط رفاقه الأربعة قتلى وسقط معهم عدة جنود ممن كانوا يطلقون النار على المتظاهرين، التفت بعدها فرأى الفتاة، نظر في عينيها الباكيتين وقال لها مبتسماً بينما كانت الدموع تغسل وجهه:
– قبلي زوجتي وعروبة وسومر…
سحب مسدسه من جعبته وأطلق النار في رأسه بعد أن كان تلقى في جسده رصاصتين تقريباً من نيران تسمى (صديقة) ولكنه كان أقوى من أن يسقط إلا بطلقة مسدسه وفي رأسه… طلقة الشرف الخاصة به.
سقط هو الآخر مضجراً بدمائه بينما امتدت أمواج المتظاهرين في ظل انسحاب ما تبقى من دوريات الأمن والجيش تفادياً لتكرار ما فعله.
وبينما مرت جموع المتظاهرين في الشارع، كانت تلك الفتاة الحزينة الباكية تبكي جثتان، جثة أخاها الثائر، وجثة منقذها القاتل. ولربما كان هو الآخر ثائر، لا أحد يدري؟!!
ملاحظات:
- النص من تأليف “أبو نجم” ويسمح نقله ونشره لكن يتوجب نسبه إلى صاحبه
- يُحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية
- يُحظر القيام بأي تعديل أو تحوير أو تغيير
- إن الشخصيات والاسماء الواردة في هذه القصة لا تمت لأحد بصلة … أو ربما تمت للجميع بصلة
- كتبت القصة بتاريخ 4/6/2011
- الصورة المستخدمة للفنان Tom Lea منقولة من موقع http://www.tomlea.net/
مهداة لروح كل شهيد سقط وروى بدمائه الطاهرة تراب الوطن.. لتكبر شجرة الحرية ويعيش بظلها الجميع
لماذا بلا عنوان؟؟
بلا عنوان لأنني غير قادر على عنونة ما يعيشه شعب وطني من مأساة في هذه المرحلة الحرجة من تاريخنا .. واختصار كل ذلك بكلمة أو اثنتين
بلا عنوان لأنني وببساطة لدي شعور قوي بالعجز اتجاه ما يحصل …العجز الذي فرض علي بسبب اتباع الجميع مؤخراً لسياسة صم الآذان والتعامي والتجاهل والسلبية المطلقة المتسترة بغطاء ما يسمونه “الحيادية”.
بقلم: أبو نجم
وصلة قصيرة http://wp.me/p1zAl3-fT
.
5 تعليقات
رائع جداً، تحية من القلب.
أرجو العمل على النشر بقدر المستطاع وعدم الإكتفاء بالنشر هنا.
قصة اكتر من رائعة …. احترامي الشديد للكاتب أبو نجم …. هالشي عم يصير بالبلد كل يوم .
طريقة سرد القصة جميلة جداً …. الله يعطيك ألف عافية
الشكر كل الشكر للقائمين على موقع كبريت المميز للموافقة على نشر القصة
وشكراً أعزائي المعلقين ولي الشرف بتعليقكم ورأيكم
والفخر كل الفخر لكل أبطال سورية المناضلين الثوار في شوارع سورية الغالية
Haj kizeb ya jahale
aya 7ouriye bidkon wou aya silmiye???
All Souriya Bashar wou Bas wou ghassban 3ankon kilkon
wou iza ma 3ajabkon inta7ou rasskon bi malion 7et ya tla3ou min souriya, hay souriya el assad wou ma mnissma7ilkon itghayrouwa bi ta2ifiyitkon.
ya khawaneee
عجزت الكلمات عن وصف إعجابي الشدييد بقصةٍ نسجتها بكلماتٍ مترابطة ،وأضفت عليها لمساتك الرائعة
تقبل مني كلماتي المتواضعة
وأتمنى لك مستقبلاً زاهراً يا كاتب المستقبل